فيلم "200 جنيه"... الألم مجسّداً

20 يناير 2025
+ الخط -

تجري أحداث فيلم "200 جنيه" في بيئة مصرية شعبية، وتتناول الحكايةُ البسيطةُ الذكيةُ والعميقةُ واقعَ حياة المواطن المصري، المنهك جرّاء اللهاث خلف لقمة العيش المغمّسة بالتعب والمعاناة.
أُنتج الفيلم عام 2021، من إخراج المُبدعَين محمد أمين وطارق هارون، ومن تأليف أحمد عبد الله. أبدع صنّاعه في الاتكاء على بطولة جماعية ضمّت عشرات الممثّلين والممثّلات، من أبرزهم إسعاد يونس وليلى علوي وخالد الصاوي وأحمد السقّا وغيرهم من ممثّلي الصفّ الأوّل، الذين شارك معظمهم في مشاهد قصيرة بالغة التأثير، أثرت العمل وساهمت في نجاحه الكبير.
تبدأ أحداث القصّة حين يسرق المنحرف عنترُ، ابن الأرملة المعدمة، مبلغَ 200 جنيه من راتب أمّه التقاعدي الضئيل، الذي لا يكفي لسدّ احتياجاتها. تشاء الصدف أن تضع الأرملة ختمها على الورقة النقدية من طريق الخطأ، ما جعل الورقة النقدية من فئة 200 جنية ذات علامة فارقة لا يمكن إلّا ملاحظتها أينما حطّت، وهي نقطة الارتكاز للحكاية كلّها. يساور الأمّ الشكّ بابنها فتدفعه إلى القسم على كتاب الله بأنه ليس الفاعل، وحين تتيقّن من براءة ابنها تدعو من حرقة قلبها على السارق المجهول، الذي سلبها، بأن يموت دعساً.
تتصاعد الأحداث حين يتابع المشاهد تنقّل الورقة النقدية بين فئات مختلفة من البشر؛ طالبة جامعية فقيرة الحال تعمل بجدّ كي تحصّل بعض النقود تساعدها في تصوير المحاضرات؛ راقصة أفراح شعبية مغلوب على أمرها، رافضة لواقعها، تسعى لتأمين مستقبل أفضل لوحيدها الذي تريده طبيباً أو مهندساً أو قاضياً؛ ربّ أسرة يبدو ثرياً، غير أنه يعاني أزمةً ماليةً تدفعه إلى بيع خاتم زوجته؛ خادمة كادحة تعمل في البيوت بأجرة متواضعة كي تطعم صغارها؛ بائعة متجوّلة جار عليها الزمن حين مرض زوجها ولزم الفراش، ما أجبرها على ذرع شوارع القاهرة لبيع محافظ جلدية تخيطها بيدها كي تؤمّن ثمن العلاج لزوجها العاجز طريح الفراش.
وهكذا، تتولد الحكايات المؤلمة في طول الفيلم البديع لنماذج إنسانية متنوّعة، قد تختلف في التفاصيل الصغيرة، لكن تجمعها الرغبة في الخلاص من الهمّ المعيشي الضاغط. تستمرّ الورقة النقدية ذات العلامة الفارقة في التنقّل بين الأيادي المتعبة، حتى تعود أخيراً إلى يد الابن الضالّ سارق والدته، حين يسطو على البائعة المسكينة التي فقدت زوجها، يضحك السارق ملء شدقَيه، قائلاً لصديقه وشريكه في عمليات النصب والاحتيال: "فعلاً المال الحلال ما بيضعش"، لكنّه سرعان ما يتعرّض للموت دعساً بيد الصديق نفسه، حين يكتشف الأخير العلاقة الآثمة التي ربطت بين زوجته والصديق الخائن، الذي منح المائتي جنيه ذاتها للعشيقة، وكانت سبب مصرعه.
تميّز الفيلم بالحوار الذكي المكثّف والانتقال الرشيق بين المشاهد المتلاحقة التي خدمت مسار الحكاية، على النقيض ممّا نشاهده في معظم الأفلام العربية ذات الإيقاع الرتيب والحوارات الطويلة المملة، والقصص المُستنسَخة عن أفلام غربية، إضافة إلى جماليات الموسيقى التصويرية، ومواقع التصوير المنتقاة بعناية، والأزياء التي عبّرت عن الشخصيات بدقّة، وزوايا التصوير البارعة التي لامست الحياة الواقعية للطبقات المهمّشة في المجتمع المصري، كذلك برع كاتب السيناريو حين ذهب إلى نهاية مفتوحة دلالةً على الواقع القاسي المستمرّ.
لم يقدّم الفيلم إجابات محدّدة، ولم يحاول رشوة المشاهد بحلول رومانسية سحرية أو بمقولات وعظية مباشرة، بل اكتفى مثل أيّ عمل إبداعي عميق بطرح الأسئلة، وترك مساحةً كبيرةً أمام المتلقّي للتأمّل والتأثر والتفاعل.
فيلم "200 جنيه" تحفة سينمائية جادّة ملتزمة مدهشة مكتملة العناصر الفنّية، والجميل أنه خالٍ من المشاهد الفجّة المقحمة واللغة السوقية الخشنة، التي تميّز كثيراً من الأفلام المصرية. تحية لجميع القائمين على هذا المنجز الفذّ الذي يشكّل إضافةً نوعيةً للسينما المصرية، وإلى مزيد من الإبداع.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.