فن تكسيرِ العظم السوري

فن تكسيرِ العظم السوري

26 ابريل 2022

(رزقي زرارتي)

+ الخط -

نستطيع أن نجزم باطمئنان أنّ صناعة الفن السوري لم تكن مصدراً موثوقاً لعرضِ السردية الواقعية الاجتماعية. رغم هذا، ومع الاستقلاليّة المحدودة، ولو على استحياء، وفي حقلٍ سياسي ملغّم باحتمالات العقاب، والاستلحاق، والتواطؤ، لم يتوانَ صنّاعه عن تطوير جمالية سوداوية الواقع السوري، وتوسيع دائرة النقاش العام، والاقتراب من حدود المحرّمات، في وقتٍ كانت تثبت فيه السلطة الحاكمة خواء اللغة الإصلاحية الطنّانة، واستمرار دولة البوليس القمعية. وبالاعتماد على الأشكال الفنية النقدية لعقدي سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، والتي صوّرت حاضراً متدهوراً في وقتٍ لم تقترح فيه مستقبلاً خلاصياً، أهم ما ميّز تلك الحقبة نظرية "التنفيس جزئياً"، حيث نُسبت للنظام سيطرة شبه كاملة على إيجاد المعنى الفني المُراد إيصاله إلى الجمهور السوري، من خلال الضغط على الفنّانين البارزين من أجل دفعهم إلى ذمّ النظام، وهو ما تُطلق عليه عبارة "النقد بالتكليف". وتضمن الرقابة "الملتبسة" عدم معرفة الفنانين، وجماهيرهم، إن كانوا فعلاً يعارضون النظام أم يطبّقون تعليماته.
في المقابل، ينبغي ألا ننسى أنّ المسرح يظلّ على حدّ تعبير الفرنسي جان فيلار أكثر الفنون المهدّدة بالتوقف أو الاضمحلال حين يفقد الحرية. إنه فنٌّ توهنه القيود، ولا يهم أن تكون هذه القيود محتوية، أو هدنية "الاحتواء" وهدنية "المنع والمصادرة". وعليه يمكن القول إن المسرح السوري تعلم السباحة، فعلياً، في بحر السياسة العكِر، ومن دون أن يخدش قوارب الأسياد، ففي مسرحية "ضيعة تشرين" عام 1974، على سبيل المثال، يتحدّى الممثل دريد لحام مع محمد الماغوط الصيغ المحدّدة الشائعة للحقيقة، ويسخر من السلطة الرسمية وهو يقصّ بشكل رمزي قصة ضياع الأرض المحتلة. في هذه المسرحية يأتي اللصوص ويسرقون الكرم، وهو مهر إحدى العرائس. إثر ذلك، يقرّر المختار أنّ أفضل طريقة للتعامل مع الموقف تكمن بإيجاد عداوات بين القريتين حتى يتمّ نسيان الكرم. خلال سياق الأحداث، يجري عزل المختار ويأتي بديل ليأخذ موقعه، ويعقبه آخر وآخر. وكلّ واحد يقدّم خطاباً وطنياً للقائد "الأصيل"، بينما يحذّر المواطنين من المؤامرات السياسية. في جوهرها، تسترد هذه المسرحية ظاهرة تقديس حافظ الأسد من الحطام النقدي، باختراع نهاية مُرضيةٍ تحتفل ببطولة المختار الأخير، الذي يُجري إصلاحاتٍ جدّية ويكرس نفسه لاستعادة الكرم، وينجح في ذلك على وقع الموسيقى الوطنية، فـ"ضيعة تشرين" إذاً يمكن أن تعمل ضمن سياق النقد السياسي المسموح به رسمياً، لأنها يمكن أن تُقرأ جزئياً على أنها تلائم الأسد في عالم التعظيم والتخليد، واحترام الوطنية، واستعادة الحقوق.

إزاحة السياسة، عنوةً، عن لغة السرد الدرامي تعطّل أدوات الفهم كليّاً لدى المتلقي السوري الفَطِن الذي تراه السلطة مجرّد كائنٍ مسلوب الإرادة والفكر

في بداية الحقبة الأسدية الثانية، تراءى للجميع أنّ الزعيمَ الجديد، بتعليمه الغربي وزوجته المولودة في بريطانيا، مستعدٌّ لتفكيك الدولة البوليسية المعسكرة. وعندما قدّم خطاباً إصلاحياً أمِل العاملون في الصناعة التلفزيونية أن يُترجَم إلى ممارسةٍ بنّاءة. لكن إخماد النظام ربيع دمشق عام 2001، كان عودة صريحة ونهائية إلى النظام القديم. وعليه، ساد الدراما السورية التباس أخلاقي في ظلّ قمع سلطوي جديد، وبطريركية سياسية محصّنة، بينما عكست الاختيارات الفنية اهتماماً قديماً بالواقعية الاجتماعية، لإثارة موضوع الهامشية الحقيقية والمجازية، حيث تجري معالجة سلسلة من المشكلات الاجتماعية على نحو ممنهج، وتشمل غياب المساواة الجندريّة، وصراع الأجيال، والصراع الطبقي، والهجرة، واعتلال الإعلام، وإساءة معاملة الأطفال، والعنف المنزلي .. إلخ. وغالباً ما تنتهي الأعمال الدرامية على نحو حزين، من دون طرح حلّ، بينما تلعب دور صمّام أمانٍ يوفّر للذّوات المقموعة فرصةً للتنفيس، من خلال استيعاب الانشقاق ونزع فتيله، ومنح النظام مظهراً منفتحاً ليعطي السوريين انطباعاً بأنّ القيادة واعية بالمشكلات الاجتماعية والسياسية وملتزمة بمعالجتها. بطبيعة الحال، ليست الأعمال السورية الفنية "الملتبسة" ببساطة نتاج سياسة دولة فاشية، بل هي نتاج صراع فنيّ حول الثقافة السياسية التي يحملها الوعي الشعبي، بينما تتبارى أجنحة من القيادة والأجهزة الأمنية على إيصال رسائل في مشهد إعلاميّ وطنيّ مراقب بشدّة، من خلال تفاعلاتٍ مبطّنة مع صنّاع الدراما المستثمرين بدورهم في الوضع القائم، حيث تكفل المفاوضات بينهم وبين ممثلي النظام الاصطفاف الأيديولوجي بدل النقد الهدّام.
وإذا اعتبرنا أنّ في مقدور السياسة إجراء جراحة آمنة للواقع، بغرض فصل مكوّناته بعضها عن بعض، ما يتيحُ لنا فهمه في سياقه الطبيعي، فإنّ إزاحتها، عنوةً، عن لغة السرد الدرامي تعطّل أدوات الفهم كليّاً لدى المتلقي السوري الفَطِن الذي تراه السلطة مجرّد كائنٍ مسلوب الإرادة والفكر، يحتاج إلى وجباتٍ دسمة من التلقين المباشر لمواصلة عطالته الوجوديّة. بينما لا يهمها، إن شاهد شعبٌ بأكمله ممثلاً يسفك الدماء بوحشيةٍ في مسلسل من التاريخ الإسلامي لينشر دين الحق، أو مسلسلاً اجتماعياً معاصراً يدعو إلى أفكارٍ ليبرالية تنتقد الكبت الجنسي وتروّج المساكنة، أو آخر يجسّد البيئة الشامية، وفيها لا يتردّد الأخ "القبضاي" في "شَخْتِ" أخته على البالوعة إن شك بأخلاقها .. إلخ. لا يهزها هذا كله، والحديث عن السلطة الحاكمة، فدرامانا مثل قضائنا، أبواب مغلقة، وجلسات مغلقة.

غضّت الدراما السورية النظر عن بلادٍ مُعْتلّة من كلّ جوانبها، فتقشّفت نصوصها عن تقديم الحياة بصورتها القاتمة

وعلى الرغم من بعض المحاولات من صنّاع الدراما الجادّين لزيادة هامش الحرية في أعمالهم، كمسلسل "غزلان في غابة الذئاب" عام 2006، عن فساد السلطة وتحكّم أربابها بمصير المواطن السوري، مع التركيز على دور "سامر" الذي يستفيد من موقع والده، "المسؤول الشريف النزيه"، للتحكّم بالآخرين واستعبادهم، إلا أنّ مثل هذه الأعمال بقيت أسيرة لمباركة المخابرات السورية، وضمن وصايتها وتصفية حساباتها، فالهدف منح صنّاع الدراما هامشاً محدوداً من الحرية، واعتباره جزءاً من سياسة التطوير والتحديث. لذا تبدو الأعمال الفنية السورية، عموماً، منفصمة، مزيّفة للحقائق الصارخة، ضاربة عرض الحائط بانتماءها الوطني، مؤكّدة على مرجعيتها لنظام ديكتاتوري، وليس لوطن. وهذا يجافي أيّ محاولةٍ لبلوغ ذاكرة انتقائية تتجنّب الانزلاق، مرّة أخرى، إلى فداحة الواقع ومعاينته تعسفياً، كحتميّةٍ لم تتزحزح من مكانها طوال سنوات الحرب. واليوم احتشدت المسلسلات السوريّة داخل وليمة البث التلفزيوني لملاقاة شهر الصيام. ولعلّ أكثرها شهرة "كسر عضم"، الذي يتناول أزمة الصراع على البقاء في زمن الحرب بين أصحاب النفوذ والسلطة والمال، من دون تجاوز الخطوط الحمراء بالطبع. ومجدّداً يتجلى الأثر الأسوأ للحرب بحصر تفكير كتّاب الدراما ومخرجيها بسياسة "كسر العظم السوري"، وتسييس المسلسلات وتضييق الأفق الجمالي والفكري، بحيث يبدو العمل الدرامي أنه يحمل رسائل سياسية مباشرة ومملّة، تصلح لنشرات الأخبار أكثر مما تصلح لأي عمل فنّي يقدّم حلاً أو فكرة للخلاص.
تلك القصديّة الفنية المؤدلجة باتت أكثر رحابةً من أقفاصٍ تسجن النصوص الدرامية داخل الورق مؤتمرةً بنواهي الرقيب، ومتقرّبةً من رؤى السلطة لمسار الأحداث داخل البلاد. لذا أخفقت في أن تعكس مردوداً معرفيّاً على البنية الفكرية للمجتمع، وهذا بفعل تمكّن الأدوات القمعية الرقابية للسلطة تارّةً، وبفعل ميراثٍ طويلٍ من الخوف تارةً أخرى. لذا نجد أنَّ الدراما السورية، في أكثر من خمسة عقود، لم تكسر طوق ما يمكن تسميتها "الوطنيات الحماسية"، بعدما تخفّفت من أحمال الواقع المصوغ سياسياً، وغضّت النظر عن بلادٍ مُعْتلّة من كلّ جوانبها، فتقشّفت نصوصها عن تقديم الحياة بصورتها القاتمة، لتغدو الأزمة السياسية العميقة التي ما زالت تعيشها سورية مجرّد فقّاعة تطفو على سطح الواقع المقترح دراميّاً.