Skip to main content
فلسفة الأمر الواقع في تونس
أرنست خوري

حسناً، مرّت أيام ثمانية على ما حصل في تونس، ونجح الأمر. هذا واقع، حقيقة، وليس رأياً، تماماً مثل حقيقة أن ما حصل هو انقلاب على الدستور وعلى المؤسسات، لا شيء آخر مهما قال المتذاكون وكارهو المنقلَب عليهم. كل ما يمكن أن يفعله التونسيون اليوم هو الحدّ من الخسارة الكبيرة، إن تمكّنوا من ذلك. وخسارة المنجز على صعيد الحريات الفردية والجماعية هي أم الخسائر، لأنها تتصل بكرامة الفرد وبحق أساسي كان المفكرون الأوائل يسمونه "طبيعياً"، حقه في قول ما يشاء وكتابة ما يريد والتعبير كيفما يرغب، من دون سجون ولا تعذيب ولا تهديد ولا أخ كبير يحدد ما هو التعبير الحلال وما هو التفكير الحرام. هذه خسارة لا وصف كافياً لفداحتها. الخسارة إذاً تتعلق بالتونسيين أولاً. هم المعنيون بالعودة في أوضاعهم إلى نفق قاتم يصعب رؤية نقطة ضوء في نهايته. و"هم" تعنيهم جميعهم هنا، المهللين الكثر للبشاعة التي تُرتكب باسم شعار "تصحيح المسار" (ولكل انقلاب اسم حركي هو "الحركة التصحيحية")، ورافضي التسلط والمؤمنين بأن إطاحة أي كان تحصل حصراً في الانتخابات ما دامت نزيهة وغير مزورة، وهي كذلك في تونس، وهذه حقيقة أيضاً وليست رأياً.
في خلفية ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيد، عدّة شغل أدواتها تتناسل. فلسفات كثيرة أعطته قوة دفع جعلت فرماناته تنفذ بانسيابية مذهلة من دون مقاومة حقيقية: الشعبوية التي يدّعي حاملها بأن لديه حلولاً سحرية من خارج الصندوق، من خارج البيروقراطية والمؤسسات والأحزاب. العسكر الذين إما تواطأوا معه، أو أنهم هم الأب الشرعي لما أقدم عليه. ركوب الكارثة الاجتماعية ــ الاقتصادية ــ الصحية غير المسبوقة التي تضرب تونس. الفشل الاستثنائي للطرف المنقلَب عليه، بإسلامييه وغير إسلامييه. ضعف الثقافة الديمقراطية في تونس، ولا عنصرية أو تجنّياً في قول ذلك، لأن الثقافة تلك تُصنع ويتم التدرب عليها، تُكتسب مع مرور الوقت والتمرين، ولا تولد مع الناس. خوف المواطنين المبرر حيناً وغير المبرر أحياناً من مقاومة انقلاب أو مشروع تسلط أو تغوّل على السلطة حين يحصل بذراع الجيش وأجهزة الأمن. وأخيراً، فهم دقيق للأوضاع الإقليمية الدولية التي تريد حاكماً، مهما كانت هويته، المهم أن يضمن استقراراً ضرورياً للأمن في داخل البلد وفي الإقليم، ويضبط حركة الهجرة ويكفل سلامة الاستثمارات الاقتصادية الأجنبية، بشكل لا تعود تُسمع في الأثير إلا مقطوعة "نتعامل مع سلطة الأمر الواقع". وللأمر الواقع ذاك قصة عمرها من عمر كل انقلاب. العواصم الأجنبية تناوبت على ترداد الثرثرة نفسها: ننتظر تسمية حكومة جديدة يعيّنها الرئيس تضمن استقرار تونس وأمنها... وإن ختمتها بعبارة "ضرورة عودة المسار الديمقراطي في أسرع وقت". معظم المواقف الأجنبية تشابهت في هذا السياق، عربياً وغربياً. لكن الأهم من المواقف الخارجية، أن للأمر الواقع سندا محليا يعيد حصر اهتمامات البشر بالبقاء على قيد الحياة، بالمأكل والمشرب، بأولوية عدم حصول حرب أهلية، وكل هذه الهموم "البدائية" تنتهي بموقف جماعي ضمني، غالباً ما يأتي على نسق أنه حصل ما حصل، ولم تعد مهمةً تسميته أو توصيفه، هذه هي السلطة الجديدة وعلينا القبول بالأمر الواقع.
الإعلام الرافض للانقلاب يقع بدوره فريسة الأمر الواقع. تنظر من موقعك الإعلامي للمشهد العام، فترى انقساماً عمودياً بين المعنيين الأساسيين بالحدث، أي بالتونسيين، وتكون بلا بصيرة إن لم تلاحظ أن مؤيدي انقلاب قيس سعيد يظهرون أكثر بكثير من رافضي مشروع تأبيد التسلط. إن بقيتَ على موقف مبدئي بما يفرضه من سياسة تحريرية لا تأتأة فيها ولا تردد، تخسر جمهوراً عريضاً جداً. وإن دخلت سباق الاحتيال على المصطلحات وتلطيفها، تكون شاهد زور مطبّعاً معه، وتقلل في المقابل من عدد الجمهور المعادي.
في كل مرة يفرض الأمر الواقع نفسه على الحدث، غالباً ما تكون الخيارات محصورة بين الأسوأ والأسوأ، من دون أن يكون هناك مجال للانتقاء حتى بين السيئ والأسوأ.