فلسطين وإسرائيل: حرب إرادات لا روايات

فلسطين وإسرائيل: حرب إرادات لا روايات

08 ديسمبر 2022

(إسماعيل شمّوط)

+ الخط -

كنت فرغتُ للتوّ من مشاهدة فيلم "فرحة" الأردني الذي أثار حنق الكيان الصهيوني، حين قفز إلى شاشة هاتفي فيلم آخر قصير جداً على إحدى منصّات الإعلام الشعبي. لم أفهم ما يجري فيه للوهلة الأولى، وقد حسبتُ أنه مقطع لعراك شبانٍ في حارة عربية، حتى إذا وصلت إلى نهايته أدركت أن ما يجري فيه لا يمكن أن يكون عراكاً عابراً، فقد انتهى بسقوط أحد الذين يظهرون في المقطع مضرّجاً بدمائه، بعد أن أطلق عليه "شخص" آخر النار من مسافة صفر.

بين ما يسجّله فيلم "فرحة" في قرية فلسطينية في ذروة حرب النكبة عام 1948 وما وقع في أحد شوارع بلدة حوارة الفلسطينية قبل أيام بضع وسبعون عاماً، حيث أطلق جندي صهيوني قاتل النار على الشاب الفلسطيني عمّار مفلح وأعدمه بدم بارد، بعد أن تعارك الشاب مع جنود زعموا أنه حاول القيام بعملية طعن، ولم يكتفوا بذلك بل منعوا سيارات الإسعاف من الوصول لإسعاف الجريح، وتركوه ينزف حتى ارتقت روحه إلى بارئها.

يروي فيلم "فرحة" الذي أثار السخط في كيان العدو، بطريقة فنية مبدعة، حكاية فتاة يافعة شهدت إعدام جنود الصهاينة عائلة فلسطينية مدنيّة، كانت للتو تستقبل طفلاً وليداً. الواقعة حدثت فعلاً وحوّلها صانعو أفلام مبدعون إلى فيلم سينمائي، بدأ عرضه على منصّة نتفليكس وأحدث هذا دوياً في كيان العدو، وشنوا عليه ولا يزالون حملة مجنونة، مع أنه لا يروي غير مقطع صغير جداً من جرائم ارتكبها المحتلون في فلسطين، ووثقها واعترف بها مؤرّخون صهاينة، ونشرت عنها صحف إسرائيلية، وأنتج صانعو أفلام يهود قصصاً مشابهة، اعتماداً على وثائق "محمية" في كيان العدو، وجاءت عملية إعدام عمّار فقط لتؤكد استمرار سياسة الإجرام والإعدام الميداني الممنهجة التي تنتهجها سلطات الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني.

كيان العدو المجرم لم يتوقف منذ ما يقارب القرن عن ارتكاب أفعال القتل والإرهاب والتطهير العرقي

الحقيقية أن كيان العدو المجرم لم يتوقف منذ ما يقارب القرن عن ارتكاب أفعال القتل والإرهاب والتطهير العرقي واستهداف الحجر والشجر والبشر وكل ما هو فوق أرض فلسطين وما في باطنها، وهو لا يخجل من المجاهرة بهذا وتوثيق ذلك، فالقوي كما يقال في اللغة الشعبية السائرة "عايب"، فهو لا يخجل من ارتكاب العيب والمجاهرة به وإلباسه لبوس العمل النظيف، فحرب التطهير العرقي والإبادة ضد أبناء الشعب الفلسطيني هي "حرب الاستقلال"، والمقاوم الذي يدافع عن عرضه وأرضه وشرفه هو "إرهابي" و"مخرّب"، والجيش المصمم للهجوم والتنكيل بالمدنيين هو "جيش الدفاع"، وحتى أكلات الفلسطينيين وملابس نسائهم وبعض أغانيهم حتى هي تراث "إسرائيلي"، بل إن الشاقل؛ وهو عملة الكنعانيين، أضحى عملة الاحتلال الرسمية، بل إن نشيد الإرهاب والقتل والحض عليه هو نشيد "الأمل" أو "هاتكفاه" بالعبرية، وقل مثل هذا عن مجمل جرائم الاحتلال التي "يغسلها" بالكذب والتلفيق، ويبيعها إلى الإعلام الغربي باعتبارها دفاعه عن "وطنه" الذي عاد إليه بعد غياب ألفي عام، فيما تنكر على الفلسطيني العودة إلى بيته إن غادره بضع سنوات!

ما تحتاجه فلسطين اليوم ليس غير مقاومة شاملة، بكل ما يمتلك أي إنسان من حق في الدفاع عن عرضه وأرضه

كل ما في كيان الاحتلال جرائم، بل لا يرتكب الاحتلال بهذا المفهوم الواسع جرائم لأنه هو نفسُه الجريمة، وكل ما يصدُر عنه مجرم بما يسمّى "القانون الدولي" وحقوق الإنسان واتفاقات جنيف ولاهاي وكل عواصم الشرق والغرب. ومع هذا يجد دعماً غير محدود من حماته الكثر في هذا المجتمع، ويكفي أن يصدر قرار من مجلس "الأمن!" وفق البند السابع كي تتحرّك كل الرياح باتجاه إحقاق الحق وتجريم الاحتلال، لكن هذا لا يقع، حتى ولو اقترف الاحتلال كل ما يخطر ببال، وما لا يخطر من جرائم، لأنه وجد كي يقوم بهذه المهمة، أما "غنج" قادته وكتابه احتجاجاً على فيلم "فرحة" وغيره، فهو مجرّد حملات علاقات عامة، تتسق مع جريمته في "غسل" الدم الذي يلطّخ كل أعضائه.

لم يعد ينقص فلسطين حملات تسويق الرواية الفلسطينية، على أهميتها، فهي اليوم ربما في أحسن حالاتها، لأنها باتت تجري على ألسنة الملايين في العالم، وبات من يبحث عن حقيقة الاحتلال وجرائمه يجد وفرة في الجرائم العلنية التي تجرّم الكيان وتجعل كل قادته مطلوبين للعدالة "الدولية" غير الموجودة أصلاً. ما تحتاجه فلسطين اليوم ليس غير مقاومة شاملة، بكل ما يمتلك أي إنسان من حق في الدفاع عن عرضه وأرضه، فالمعركة مع هذا العدو المجرم ليست تنافساً في العلاقات العامة وحملات "كسب التأييد"، إنها باختصار شديد حرب إرادات لا روايات.

أما المطالبات المضحكة من الجالسين في رام الله بتأمين المجتمع الدولي حماية للشعب الفلسطيني، فهي مثيرة للحنق والسخرية، لأن هذا المجتمع نفسه هو من يحمي الاحتلال ويدعمه، ويوفر له الغطاء "الشرعي" والقانوني لكل جرائمه.