"فلج دارس" الهادئ

08 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 03:07 (توقيت القدس)

باعة في سوق نزوى بمحافظة الداخلية في سلطنة عُمان (5/10/2023 فرانس برس)

+ الخط -

زار مسقط أخيراً الشابان الروسيان، المترجم عن العربية جليب فولوشينكو وعروسه أنتونينا. وسبق لجليب أن قرأ روايات كاتب هذه السطور، وأنجز بحث الإجازة الجامعية عن "خريطة الحالم"، وهو عمل سردي قصير صدر عام 2010 عن دار الجمل، ثم ترجم "درب المسحورة"، وهو أيضاً عمل سردي قصير صدر عن دار الانتشار في العام نفسه، ثم قبلت المجلة الفصلية الروسية "الآداب الأجنبية" نشره فيها. وقال لي إن المشرف عليه، الذي يزور اليمن كثيراً، ولديه علاقات بكتّاب يمنيين هو من نصحه بقراءة هذه الروايات. وانطلاقاً من هذه القراءات، قرّر أن يزور مسقط وكان في خطّته زيارة نزوى، حيث يوجد فلج دارس، أحد أشهر معالم هذه المدينة العتيقة. ودارس نُهير غزير يجري منذ مئات السنين، اختارته منظّمة يونسكو ضمن الآثار الإنسانية الخالدة، طوله حوالي ثمانية كيلومترات، وعمق منبعه حوالي 18 متراً.

اتفقنا أن نلتقي في السادسة صباحاً، في دوار برج الصحوة، وهو مفترق طرق لمختلف مناطق عُمان، وساحة واسعة فيها حديقة وموقف للحافلات وسيارات أجرة، وسبب التبكير إلى نزوى أننا لا نرغب في الوصول متأخّرين، حتى لا يفوتنا مشهد سوق الجمعة الغاصّ بالناس من باعة ومشترين، يفدون من مختلف مناطق عُمان، حيث يزخر المكان بسلعة الجبل الأخضر الجاذبة، من رمان وزيتون وثوم وعسل. سنرى أيضاً أن معظم الباعة هناك من العُمانيين، صغاراً وكباراً، يقرفصون تحت الأشجار أو وسط محالهم، والمكان يغص بالذاهبين والعائدين، حيث يكون سوق نزوى أيضاً مقصداً للسياح الأجانب، بسبب هذه الميزة الطبيعية المفتوحة. هناك أيضاً سوق واسع للفخّاريات والصناعات اليدوية القديمة، كما يوجد في الأعلى محل كبير (متاهي) يبيع الأبواب الأثرية القديمة.

وصلنا بعد حوالي ساعة ونصف الساعة، قبيل الثامنة، وكنت أقود السيارة بحذر، ولم أتجاوز إلا فيما ندر سرعة مائة كيلومتر في الساعة. في الأثناء، انتقلنا بالحديث إلى أكثر من ضفة. وجليب يتقن العربية والإنكليزية، وزوجته أنتونينا تتقن الإنكليزية والفرنسية. تحدثنا عن متاحف سان بطرسبرغ، المدينة الجميلة في الجانب الأوروبي من روسيا. وعند السؤال عن عدد هذه المتاحف قيل لي إن لا أحد يستطيع الإجابة بدقة عن عدد المتاحف في موسكو وسان بطرسبورغ، بسبب كثرتها وتعدّدها، فحتى محطات المترو هناك استُثمرت كمتاحف.

حين وصلنا إلى سوق نزوى، لم نجد صعوبة في إيجاد موقف للسيارة في ذلك الوقت من الصباح، بيد أن السوق كان زاخراً بالحركة. بدأنا بسوق الفخاريات، وهي قطع طينية من صحون وأوعية مختلفة الأحجام والأشكال، يؤتى بها عادة من ولاية بهلا القريبة، التي تشتهر منذ القدم بصناعة الأواني الطينية. ثم سوق الحلوى العُمانية، حيث يمكن للزائر أن يتذوّق ما يشاء من الحلوى مجّاناً، قبل أن يقرّر إنْ كان سيشتري أم لا، وكان من أبرز أنواع هذه الحلوى تلك الممزوجة باللبان الظفاري والزعفران الإيراني.

اشترى رفيقا الرحلة شيئاً من الحلوى العُمانية بعد تذوقها، بعد أن سألا البائع إن كانت لا تفسد بسبب المسافة والسفر، فأجاب بأن من الممكن أن تبقى شهراً من دون أن تفقد مذاقها. ويتقن الباعة في نزوى، بمن فيهم كبار السن، التحدّث بالإنكليزية، حتى بائع الثوم الرجل المسن، حين سألتُه عن سعر الكيلو، أجابني بالإنكليزية قاصداً أن يسمع رفيقاي عن فوائد الثوم العُماني وقيمته الغذائية، لأنه يؤتى به من الجبل الأخضر.

انتقلنا إلى ساحة فلج دارس التي لا تبعد عن سوق نزوى وقلعتها الدائرية العريقة. ومصادفة وجدنا في محيط الفلج عدداً من الطلبة الروس، وكأن مغناطيساً خفياً من المشاعر جذبهما إلى أبناء جلدتهما، فاستغرقا في حديث طويل معهم، وهم من كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية، في ولاية منح القريبة.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي