فقدان الخيط الأبيض في لبنان

فقدان الخيط الأبيض في لبنان

16 يوليو 2022
+ الخط -

ثمّة ملمحان بارزان استجدّا قبل أيام على الساحة اللبنانية، ويكفيان وحدهما لتلخيص حقيقة ما وصلت إليه البلاد من تردٍّ وتراجعٍ في جميع القطاعات، وليكونا دليلاً على أن التردّي لن يتوقف في هذه البلاد التي دخلت طور الانهيار، وتسلك مساره بسلاسة منقطعة النظير. وجاءت انتفاضة سريلانكا، ونجاحها في خلع الطبقة السياسية التي كانت تسيطر على تلك البلاد، بينما فشل اللبنانيون في ذلك، لتُفاقم الصورة التي كرّسها هذان الملمحان، بسبب رمزية سريلانكا عند اللبنانيين، كونها مصدّرة للعاملات المنزليات القادمات إلى أتون العنصرية والفوقية وبؤرة ممارسة التنمّر. أما ما نتحدث عنه فهو تهديد المراقبين الجويين في مطار بيروت بالتوقف قريباً عن العمل ليلاً، وما يشكّله هذا من خطر على عمل هذا المطار وإساءة إلى سمعة البلاد التي تتدهور بتسارعٍ ثابت. والأمر الثاني توقُّف خدمات الشركة المشغلة آخر معملين حراريين يمدّان لبنان بنسبة ضئيلة من الكهرباء، والتي لا تكفي لإنارته سوى ساعات قليلة في اليوم، وهو ما زاد من فقدان سكانه القدرة على تبيّن الخيط الأبيض وسطَ سوادٍ عميم.

وكان المراقبون الجوِّيون في مطار بيروت قد أعلنوا، في 5 يوليو/ تموز الجاري، نيَّتهم التوقف عن العمل ليلاً، بدءاً من أغسطس/ آب المقبل، بسبب "عدم القدرة على تأمين استمرارية العمل ليلاً، مع وجوب تخفيض عدد الرحلات نهاراً بما يتوافق مع القدرة الاستيعابية للمراقبين الجويين". أما الأسباب فتلخّص مأساة لبنان التي كرستها هذه الطبقة الحاكمة منذ ثلاثة عقود، وهي سياسة التحاصص التي لا يجري أمر في لبنان، مهما كان خطيراً ومصيرياً، إلا بعد استيفاء شروطها وتأمين سيرها على أكملِ وجهٍ. ومعروف أن هؤلاء المراقبين، وغالبيتهم متعاقدون أعيد التعاقد معهم لقلة عدد الكادر، يعانون الأمرِّين في عملهم الذي تطول ساعاته أكثر مما يتحملون، ويضطرون للعمل ساعات وأياما طويلة، من دون عطلة أو إجازة، درءاً لاحتمال توقف حركة الملاحة في هذا المطار، وضمان استمرار الحركة في الأجواء اللبنانية. وصغر الكادر ناتج عن عدم البتّ في تعيين مراقبين نجحوا في مسابقة الاختيار، وقيل إن ملف تعيينهم في أدراج رئيس الجمهورية، ميشال عون، منذ ثلاث سنوات، ويؤجّل التوقيع عليه لأسباب تتعلق بالتوزيع الطائفي. وفي هذه الحالة، ربما هنالك تقصُّد في عدم البتّ فيه لزيادة التجاذبات والتنازلات هنا وهناك، في إطار تقاسم مؤسسات الدولة اللبنانية وقطاعاتها بين زعماء الطوائف، وتحاصص ما تبقى من جثتها التي تتفسّخ ولا يأبهون لهذا التفسّخ، ما داموا قد أصبحوا قادرين على إدارة انهيار البلاد والاستثمار في هذا الانهيار.

أعاد الشعب انتخاب المنظومة الحاكمة، وكرَّسها قابعةً على حياته لأربع سنوات مقبلة

أما الأمر الآخر فهو الأنباء التي انتشرت، في 6 يوليو/ تموز الجاري، عن إعلان الشركة المشغلة معملي الزهراني ودير عمار، عن توقفها عن تقديم الخدمة وتوقف العمل في المعملين، وهما آخر معملين حراريين قيد العمل من أصل سبعة معامل، بسبب عدم تقاضيها مستحقّاتها المتراكمة لدى مؤسّسة كهرباء لبنان. وبذلك أصبح تأمين الكهرباء يتم مداورةً بين المعملين، اعتماداً على ما تبقى من مخزون نفطي يكفي لمد لبنان بالكهرباء ساعتين لا غير، أياما معدودة. وهذا الأمر مرشَّحٌ للتكرار ما دامت السلطة اللبنانية عاجزةً عن حل ملف استيراد "الفيول" اللازم لتشغيل محطات الكهرباء السبع، وذلك بسبب شحّ الموارد لديها، والناتج عن شلل اقتصاد البلاد والعزلة والاختناق السياسي غير القابل للانفراج، وكذلك بسبب سرقة المسؤولين مدّخرات اللبنانيين في البنوك وتهريبها إلى البنوك الغربية عشية انتفاضة 17 أكتوبر (2019)، والتي كانت من القوة إلى درجة أخافت الطبقة الحاكمة وهدّدت وجودها.

من يراقب الشؤون اللبنانية يعرف أن الجميع قد فقدوا القدرة على تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والاهتداء إلى طريقة للخروج من الاختناق السياسي الذي يشلّ البلاد، والذي يتراكم فوق الشلل الاقتصادي والفوضى الأمنية وفشل الدولة وسلوكها مسار الانهيار. فعلى سبيل المثال، عوّلت السلطة اللبنانية على الاقتراض من الصناديق الدولية للخروج من الأزمة، وهذه اشترطت عليها المباشرة بالإصلاح من أجل الافراج عن القروض المقرّرة، لكن السلطة تعرف أن اصلاحاً كهذا، مقروناً بمحاربة الفساد، سيجعل هذه السلطة حفّارة قبرها بنفسها، بعد أن عجز الشعب عن حفره بانتفاضته الموءودة. وهنا يحضر القول المنسوب للقائد عمر المختار: "الضربات التي لا تقصم ظهرك تقويك"، فضربات الانتفاضة اللبنانية سنة 2019 لم تفعل سوى تقوية السلطة اللبنانية، وجعلتها تهمل ما لا تعتبره شعباً، سوى أيام الانتخابات، فتضع حقوقه ومطالبه خارج حسبانها.

ضربات الانتفاضة اللبنانية سنة 2019 لم تفعل سوى تقوية السلطة اللبنانية، وجعلتها تهمل ما لا تعتبره شعباً

وهنالك عامل في صف الطبقة السياسية، قدرة الشعب اللبناني على التكيف مع كل مصيبة تتسبّب بها هذه الطبقة وتوقعها على رأسه، ويسارع إلى تقبُّل الوضع الذي تحدثه بسرعةٍ، منتظراً المصيبة التالية، والتي لا ريب خارجة من رحم هذه الطبقة المولّدة للأزمات والمصائب. وقد كان متوقعاً بعد انفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/ آب 2020، أن يخرج الشعب اللبناني عن بكرة أبيه إلى الشوارع والساحات، وأن يتوجّه إلى قصور السياسيين والمسؤولين اللبنانيين لاقتلاعهم من جذورهم، لتسببهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، بهذه الكارثة، كما فعل الشعب السريلانكي. غير أن ما حدث لم يتعدَّ الضجيج الذي يعرف السياسيون وزعماء الطوائف أنه سرعان ما سيخفت صوته، وسيعتاد الشعب على ما سببه هذا الانفجار منتظراً مصيبة أكبر.

ولم تتأخر المصيبة الأكبر، إذ حلّت مع الانتخابات البرلمانية التي جرت، في 15 مايو/ أيار الماضي، حين أعاد الشعب انتخاب المنظومة الحاكمة، وكرَّسها قابعةً على حياته لأربع سنوات مقبلة، على الرغم من بعض خروقات واضحة، وهي ذاتها لن تفعل سوى إدارة الانهيار الحالي، كما أدارته من سنوات واستثمرت فيه. لذلك، لا يشكّل ملف سيادة العتمة، وإقفال مطار بيروت ليلاً، أي فارق لدى هذه السلطة، كما كان الأمر مع انفجار المرفأ، لأن السلطة، ومعها الشعب، قد أضاعوا سبيل الاهتداء إلى نور في هذا النفق الذي لا آخر له.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.