فعّاليات غزّة الشعبية والحالة الفلسطينية
فلسطينيون يتظاهرون في بيت لاهيا ضد حماس ويطالبون بوقف الحرب (26/3/2025 فرانس برس)
لا يمكن لوم الحالة الشعبية التي انطلقت أخيرا في بيت لاهيا، ثم امتدّت في عديد من مناطق القطاع. ومن غير المعقول تكرار نظرية المؤامرة بالحديث عن وقوف بعض القوى خلفها، إذ يجب فهم الحالة موضوعياً والوقوف على أسبابها من دون اتهامات لا تفيد في معالجة الأزمة. فقد عانى الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، من العدوان والقتل والدمار، وتحمل مآسي متعدّدة، منها النزوح المتكرّر وتقويض المنظومة الغذائية والصحّية والإنسانية، إلا أنه لم ينكسر، وصمد صموداً أسطورياً، وأفشل مشروع التهجير عندما عاد مئات الألوف من الجنوب إلى الشمال عند لحظة إعلان وقف إطلاق النار في 19 يناير/ كانون الثاني 2025. ويعتقد قطاع واسع من الشعب أن تسليم حركة حماس المحتجزين لديها، واستعدادها لمغادرة المشهد في غزّة سينهي المأساة والمقتلة المستمرّة بحقهم.
بالنظر إلى طبيعة الشعارات التي رفعها وردّدها المتظاهرون، نجد أنها موجّهة إلى الاحتلال، وخاصّة شعار "بدنا نعيش" و"إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر"، وغيرهما. كما أنها، في الوقت نفسه، موجّهة إلى أداء حُكم حركة حماس في غزّة الذي تسلمت مقاليده منذ أحداث الانقسام في العام 2007. ولا يوجد شعار رُفع ضدّ المقاومة أو ضدّ النضال الفلسطيني، رغم الثمن الباهظ الذي دفعة شعبنا؛ أكثر من 50 ألف شهيد، وأزيد من 120 ألف جريح غالبيتهم من النساء والأطفال.
يجب أن تأخذ "حماس" بالاعتبار، وبجدّية، ما حدث من فعّاليات شعبية، وتعيد النظر في سياستها الداخلية، بعيداً من الاستحواذ والسيطرة وتقليص مساحة الحرّيات، واعتبار أن من ليس معي (أو منتقدا لي) فهو ضدّي. مراجعة الأداء بما يتعلّق بتوزيع المساعدات وغلاء الأسعار، وبملاحقة تجّار الحرب، إلى جانب المراجعة السياسية للأداء العملي والتفاوضي منذ "7 أكتوبر" باتت ضرورة موضوعية. لقد دفع شعبنا ثمناً كبيراً، ولم يستسلم، وشكّل حاضنةً إيجابيةً للمقاومة في الحرب الراهنة، وسبقتها أربع حروب، ما يؤهّل المواطنين للانتقاد وإبداء الرأي والاحتجاج بالطرق السلمية والمشروعة، ويتطلّب هذا تجاوز الاتهامات النمطية عن أسباب حدوث الفعّاليات عبر نظرية المؤامرة. والمؤامرة، حتى لو افترضنا وجودها، لن تستطيع تحريك الشارع الذي يتحرّك فقط من توفر قناعة جمعية.
آن الأوان لخوض حوار مجتمعي سياسي بين القواعد الشعبية الفلسطينية
آن الأوان لخوض حوار مجتمعي سياسي بين القواعد الشعبية الفلسطينية، للعمل على سدّ الفجوات وتقريب وجهات النظر وتصويب الأداء، وإعادة تصويب البوصلة لتتجه إلى الصمود وإدانة الاحتلال، وجرائمه، وإفشال مشروع التهجير. والشعب الفلسطيني في لحظة تاريخية فارقة لا ينفع معها التلاوم والاتهامات المتبادلة، بل ينفع معها إدراك خطورة التحدّيات الوجودية التي تتهدّد القضية الوطنية، تنفيذاً للمخطّط الاستعماري والإحلالي، والعنصري الصهيوني، على حساب الأرض والشعب والحقوق. ينبغي تشكيل اللجان الشعبية في مناطق القطاع كلّها، فتتكوّن من القوى السياسية والمجتمعية كافّة، وهذا يشكّل فرصةً لتجاوز التشقّقات والاحتقانات الداخلية، والعمل في صيانة السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي، وسيساعد بالضرورة على إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية وفق إعلان بكّين، وغيره من اتفاقات المصالحة.
ومن المهم في ظلّ هجوم حكومة الاحتلال الفاشية، ذي الطبيعة الاستراتيجية، الرامي إلى حسمَ الصراع، تقديم مقترحات جماعية عبر منظّمة التحرير الفلسطينية، تبدأ بتشكيل وفد مشترك للمفاوضات، أسوة بما جرى بعد العدوان على قطاع غزّة في عام 2014، وتتوّج بتحقيق الشراكة في الهيئات والمؤسّسات التمثيلية الفلسطينية، وتستند إلى آليات عملٍ منها التمسّك بالخطّة المصرية العربية لإعادة الإعمار في قطاع غزّة، التي تتضمّن تشكيل لجنة إدارية مهنيّة لإدارة شؤون القطاع وإعلان هدنة في غزّة والضفة الغربية، مبنية على وجود قوة دولية لحماية الشعب الفلسطيني، بما ينزع الذرائع من الاحتلال، ويعمل على الحدّ من اندفاعته الهمجية ذات الأبعاد التهجيرية.
الشعب الفلسطيني في لحظة تاريخية فارقة لا ينفع معها التلاوم والاتهامات المتبادلة، بل ينفع معها إدراك خطورة التحدّيات الوجودية التي تتهدّد القضية الوطنية
تتطلّب إدارة الصراع بحكمة إدارةً مشتركةً لها تتكون من القوى والفعّاليات كافّة، وتمارس أشكالاً فاعلةً وذات إجماع، ومنها المقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية والقانونية والمقاطعة، وغيرها، علماً أنّ أشكال النضال كافّة مشروعة، بما في ذلك المقاومة المسلّحة، ولكن يجب أن يقرّر العقل الجمعي الفلسطيني الأشكال الأكثر نجاعةً، القادرة على تحقيق الهدفـ، وهناك تجربة الانتفاضة الشعبية الكبرى (1987) يمكن الاستفادة منها.
من المهم الاستفادة من الفعّاليات الشعبية في غزّة، واستخلاص الدروس والعبر منها، على قاعدة تصويب البوصلة في مواجهة الاحتلال، بما يعمل في تصحيح الخلل في الأداء الداخلي وعلى أرضية أن الجميع في دائرة الاستهداف، ومن مصلحة الكلّ إنجاز الوحدة السياسية والمجتمعية، إذ ليس من الصائب توجيه اللوم إلى الضحية، بل إلى الجلاد، وهو الاحتلال الذي يشكّل العدوّ الرئيس لمكوّنات الشعب الفلسطيني كلّها.