فرنسا منارة الإعلام؟
عشتُ طويلاً في فرنسا، ولطالما أذهلتني حرّية التعبير في إعلامها، وارتفاع سقف الموضوعات التي يمكن خوضها، مهما كانت حسّاسةً ومثيرةً للسجال. اليوم، وأنا أواصل الاستماع إلى محطّاتها الإذاعية، ومشاهدة قنواتها التلفزيونية، وقراءة صحفها ومجلّاتها العريقة، أكاد لا أصدّق أنها البلاد نفسها والصحافة ذاتها التي كانت ذات يوم، بتنوّعها وقدرتها على طرح القضايا الحساسة والنقد البنّاء، منارةً للحرّية الفكرية والنقدية، وأحزن للبَوْن الكبير الذي يفصل ما بين ماضيها القريب وحاضرها.
في مارس/ آذار 2025، أعلن الصحافي الفرنسي المعروف جان ميشيل أباتي استقالته من إذاعة RTL، إذ كان يعمل محلّلاً سياسياً في أحد برامجها، بعد أن منعته المحطّة من العمل أسبوعاً بسبب مقارنته أعمالاً ارتكبتها فرنسا في الجزائر خلال الاستعمار ببعض الجرائم النازية: "كلّ عام، نحيي في فرنسا ذكرى ما حدث في أورادور سير غلان (قرية ذَبح النازيون سكّانها)، ولكنّنا ارتكبنا مئاتٍ من هذه المجازر في الجزائر، فهل نعي ذلك؟". قامت الدنيا ولم تقعد، ورفض أباتي الاعتذار أو العودة عن كلامه، وقد أوضح لاحقاً أنه استقال نتيجة ضغوط سياسية ومالية تعرّض (ويتعرّض) لها بسبب التدخّل الخارجي في تحديد خطّ التحرير.
تابعت الصحافة الأجنبية الأمر، ورأت في استقالة أباتي "بدايةَ انهيار الصحافة الفرنسية"، كما أوردت "ذا إندبندنت" في تقرير لها، فاعتبرت استقالته بدايةَ مرحلة جديدة في تاريخ الصحافة الفرنسية، إذ يُسيطِر المال والسياسة على الإعلام بشكل غير مسبوق، كذلك علّقت "ذا غارديان" قائلةً: "الصحافة الفرنسية التي كانت دوماً موطناً للحياد، أصبحت اليوم تحت سطوة المال والسلطة، وهو ما يهدّد قدرتها على تقديم نقاشات حارّة وعميقة"، كذلك كتبت "إل باييس" الإسبانية: "الإعلام الفرنسي يضيّق على التعددية، ويغذي استقطاباً سياسياً لم تعهده البلاد على نحوٍ كهذا منذ عقود".
والحال، ليس ما جرى لأباتي فريداً، فالتغيير المشار إليه ليس حديث العهد، بل إنه بدأ منذ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، حين شهد الإعلام الفرنسي تغييرات جذرية أثّرت عميقاً في هيكل الصحافة ودورها في المجتمع. حتى الصحف الكبرى التي بدأت تعاني من نقص في الإيرادات، تكيّفت مع واقع جديد ازدادت فيه هيمنة رأس المال على عالم الإعلام، بعد أن راح كبار رجال الأعمال من أمثال فينسان بولوريه (مجموعة فيفندي)، وبرنار آرنو (لوي فويتون)، وباتريك دراهي، وكزافييه نيل، ودانييل كريتنسكي، يستحوذون على عدد من الصحف والقنوات، أو يصبحون من كبار المساهمين فيها، ما حوّل الإعلام في فرنسا أداةً لترويج أجندات تجارية وسياسية، وضخّ أفكار اليمين واليمين المتطرّف في ثنايا الرأي العام. كيف؟
اتّسعت قائمة الموضوعات شبه المحظورة، أو تلك التي تُعالَج من دون موضوعية وبانحياز كبير. في مقدمة تلك القضايا يأتي (طبعاً) النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، إذ يُلاحَظ أن معظم الوسائل الإعلامية الكبرى تبنّت الرواية الإسرائيلية الرسمية، وهمّشت الأصوات الفلسطينية، أو أنها حصرتها في إطار أمني آني، في حين يُواجَه أيُّ انتقاد للسياسات الإسرائيلية بتهم "معاداة السامية"، ويُلاحَظ أيضاً تغييب التغطية الإعلامية لقضايا التمييز ضدّ المسلمين، والعنصرية المؤسّساتية في فرنسا، وتُقدَّم غالباً في الإعلام "قضايا علمانيةً"، من دون السماح بالتعبير لأصوات المعنيين بها. وتجدر الإشارة إلى حظر شبه كامل لكلّ نقد يتناول أوليغارشية المال أو سياسات النيوليبرالية الاقتصادية، إذ يطغى خطاب "الإصلاح" و"الواقعية الاقتصادية"، فيما تُقصى الأصوات اليسارية أو النقابية، كما حدث في أثناء احتجاجات قانون التقاعد عام 2023.
ولكي لا تبدو الصورة مبالغة في سوداويتها، لا بدّ من ذكر صحفٍ ومواقع مستقلّة تواصل الدفاع عن استقلاليتها الصحافية (ميديابارت، لوموند ديبلوماتيك، ولوبس)، لكنّها على الرغم من جدّيتها في تقديم المحتوى الاستقصائي، باتت أقلّية وسط مشهد إعلامي خاضع لهيمنة المجموعات الاقتصادية الكبرى، إذ يعلو تحقيق الأرباح على تقديم الحقيقة.