فرصة ذهبية وتاريخية للرياض

فرصة ذهبية وتاريخية للرياض

27 مايو 2023
+ الخط -

رغم الفجوات السياسية القائمة بين واشنطن والرياض، نتيجة ما تبديه الرياض من حرية حركة في تنظيم علاقاتها مع المراكز الدولية، فإن إدارة الرئيس جو بايدن لا تتوانى عن بذل جهودٍ محمومة للتوسّط بين تل أبيب والرياض من أجل إقامة علاقة بينهما، وهو ما يلقى ترحيبا بالغا في الأوساط الإسرائيلية الحاكمة، فيما تبدي الرياض موافقة مبدئية على المسعى الأميركي، وتقرنها بمطالب وضمانات من واشنطن وتل أبيب معا. وهذا هو فحوى اتصالات ومباحثات شهدتها الأسابيع القليلة الماضية تمثلت في زيارات مسؤولين أميركيين وأعضاء في الكونغرس إلى كل من الرياض وتل أبيب، وجرى تتويجها بما تسرّب عن محادثة هاتفية بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وبما قيل إنه ثمرة وساطة بحرينية وبضغط أميركي، على ما أفادت قناة إسرائيلية الأربعاء الماضي، 23 مايو/ أيار الجاري. ومعلوم أن نتنياهو يبدي لهفة فائقة، ويمنح أولوية متقدّمة، لتطبيع إسرائيلي سعودي، في محاولة منه لاستكمال قوس الاتفاقات الإبراهيمية، بينما تنظر الرياض إلى المسألة من عدة زوايا، منها العلاقة مع واشنطن التي ما زالت تشهد فجوات، والتي تتطلب تجاوبا أميركيا أكبر مع الاحتياجات الدفاعية السعودية، وكذلك من زاوية تعزيز المركز السعودي في العالم العربي والإسلامي، وعلى مستوى إقليمي ودولي، كما من زاوية التحدّي الإيراني رغم استئناف العلاقات مع طهران، وكذلك من زاوية تعظيم التنمية الداخلية والموارد غير النفطية وفق رؤية 2030. في المقابل، تسعى واشنطن، في الأثناء، إلى تحقيق اختراق في معادلات المنطقة، بما يضاهي الاختراق الصيني الذي أدّى إلى وقف القطيعة بين الرياض وطهران، وللبرهنة على أن الرئيس بايدن ليس أقلّ حماسة من سلفه دونالد ترامب لتطبيع عربي إسرائيلي.

ويسترعي الانتباه أنه بينما تعرف العلاقات الأميركية ــ السعودية فجواتٍ بدأت، بالمناسبة، في أثناء ولاية ترامب في العام 2019، نتيجة التلكؤ الأميركي في دعم الدفاعات السعودية ضد التعدّيات الإيرانية آنذاك، وكذلك تقليص الدعم الأميركي حينها للعمليات السعودية في اليمن، فإن العلاقات بين الإدارة الديمقراطية وحكومة أقصى اليمين في الدولة العبرية، رغم التفاهمات الاستراتيجية، تظل محكومة بفجوات وذلك نتيجة التحفّظ الأميركي على الجموح في الاستيطان واستباحة الأماكن المقدسة، وعلى رفض استئناف التفاوض مع السلطة الفلسطينية. وقد برزت هذه الفجوات مع عودة نتنياهو إلى الحكم مجدّدا، حيث تباطأ البيت الأبيض في توجيه دعوة له لزيارة واشنطن، وأظهرت واشنطن، بعدئذ، انتقادات علنية لتوجه الائتلاف اليميني إلى ما عُرف بإصلاح القضاء، في هذه الأجواء غير الصافية، تتحرّك واشنطن نحو كل من الرياض وتل أبيب، والهدف الاستراتيجي، بطبيعة الحال، تعزيز مركز الدولة العبرية وتوفير مظلة أمان لها عبر نسج علاقات وثيقة مع دول عربية رئيسية في المنطقة، وهو الهدف الذي يلتقي عليه الجمهوريون والديمقراطيون. ولا يتردّد مسؤولون أميركيون، منهم مستشار الأمن القومي، جايك سوليفان، في القول إن واشنطن ترى أن الفسحة الزمنية، حتى نهاية العام الجاري، تمثل الموعد المستهدف لإنجاز التطبيع.

 يبدي نتنياهو لهفة فائقة، ويمنح أولوية متقدّمة، لتطبيع إسرائيلي سعودي، في محاولة منه لاستكمال قوس الاتفاقات الإبراهيمية

في هذه الظروف، يبدي المسؤولون السعوديون أقل قدر من الإشارات عما يجري، ومن ذلك مطالبة واشنطن بتسليم أسلحة ومعدّات سبق أن اتفقت الرياض عليها مع الإدارة الأميركية السابقة، والارتقاء بالعلاقات الدفاعية إلى مستوى حلف دفاعي، ودعم خطط الرياض لإقامة منشآت نووية للأغراض المدنية، بما في ذلك المساعدة في تخصيب اليورانيوم. ومطالب كهذه، إلى جانب مسائل أخرى، هي مدار مباحثات مع مسؤولين أميركيين يتوافدون على الرياض، لإصلاح العلاقات الثنائية وإعادتها الى زخمها السابق، وكذلك من أجل التوسّط في مسألة دفع الرياض إلى التطبيع مع تل أبيب. وبما يخصّ هذه المسألة بالذات التي يجري التحرّك نحوها ببطء، وبعيدا عن الأضواء، وذلك إدراكا من الرياض الحساسية البالغة لمسألة التطبيع مع دولة الاحتلال، في أنظار ملايين العرب والمسلمين، فقد سبق لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أن صرّح بأن بلاده، مع توجهاتها السلمية، لن تنحو في المنحى نفسه الذي نحته الاتفاقات الإبراهيمية، والمقصود أنها لن تقيم تطبيعا بمعزل عن قضية فلسطين وبالقفز عنها. على أن الرياض تواصل سياسة التكتّم بشأن الاتصالات الجارية، بما يجعل القنوات التلفزية الإسرائيلية مصدرا وحيدا للتسريبات، بما في ذلك التسريب عن محادثة هاتفية بين بن سلمان ونتنياهو قيل إنها جرت الاثنين الماضي، خلال زيارة خاطفة قام بها ولي العهد السعودي إلى المنامة، وذلك وفق القناة الإسرائيلية 12. ووفق مصادر هذه القناة، من بين المطالب الرئيسية للرياض، وطُرحت في المفاوضات؛ "منح تسهيلات" لصالح الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك "التنازل عن سلطات الجيش الإسرائيلي" في الضفة، "لصالح تعزيز نشاط الأجهزة الأمنية الفلسطينية" فيها. كما تطالب السعودية، بحسب التقرير، بإعطاء الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، وأعضاء السلطة الفلسطينية، "صلاحياتٍ أمنية" في كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة الصياغة الإسرائيلية لما تصفه مطالب سعودية، غير أن مكتب رئيس حكومة الاحتلال، وكذلك وزارة الخارجية، يمتنعان عن التعليق على التسريبات، وذلك كما يبدو من أجل توفير أجواء هادئة للمباحثات، ثم وهذا هو الأهم، من أجل عدم الخوض في أية مطالباتٍ تتعلق بالوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فحكومة نتنياهو الحالية المنضوية مع أقصى اليمين، ومع ممثلي الاستيطان، تتصرّف باعتبار أن ملف السلام والتفاوض مع الجانب الفلسطيني مغلق، وهي تريد للجميع، بما في ذلك السعودية التي يخطبون ودّها، أن يوافقوا (أو يغضّوا النظر) على ابتلاع الأراضي الفلسطينية، وأن يجري التركيز فقط على التعاون الثنائي في مختلف المجالات، بما فيه المجال الدفاعي، أمام التحدّي الإيراني.

تسعى واشنطن، في الأثناء، إلى تحقيق اختراق في معادلات المنطقة، بما يضاهي الاختراق الصيني الذي أدّى إلى وقف القطيعة بين الرياض وطهران

وأيا كان الأمر، يتيح الوزن المتزايد للسعودية، والوضع الراهن لعلاقات المملكة مع واشنطن، فرصة ذهبية وتاريخية للتأثير إيجاباً ونوعياً في معادلات المنطقة المختلة من أجل تصحيح هذه المعادلات، ونزع مصدر التوتر الدائم والمستفحل والمتمثل في استمرار الاحتلال، وازدراء اليمين الإسرائيلي الدعوات المنادية بالسير على طريق الحل السياسي، وهو مما يزيد الوضع السيئ سوءاً، ويهيئ أرضاً خصبة للتطرّف من هنا وهناك، وعلى الأخص لدى الجانب الإسرائيلي الذي يضع جيش الاحتلال في خدمة المستوطنين المسلحين، ويحرس استباحة الأماكن المقدسة في القدس بصورة شبه يومية.

وللتذكير، لقيت مبادرة السلام العربية للعام 2002 لدى طرحها أوسع قبول دولي، ولم تستطع واشنطن الاعتراض عليها، بل أنها أبدت قبولا بها بعد خمس سنوات على إطلاقها، نظرا إلى تماشيها مع الشرعية الدولية، وبما أن المبادرة سعودية في الأساس، فإن من حقّ أصحابها طرحها مجدّداً أساسا للحل يضم إليه دولاً أخرى، ويوفر أفضل إطار لسلامٍ يضمن الأمن للجميع، وكي لا يتم الاستغراق في جزئيات الصراع وتفاصيله والحلول في أية مباحثات مرتقبة.