فراغ تشريعي في مواجهة تكنولوجيا التسلّح الحديثة

07 مارس 2025

سيارة تحترق بعد هجوم من طائرة مسيّرة في شارع الرشيد جنوبي قطاع غزّة (2/2/2025 الأناضول)

+ الخط -

يجد المجتمع الدولي نفسه في مواجهة متعدّدة الأبعاد، أخلاقية وقانونية وقيمية وعلمية، بين المبادئ التي ارتكز عليها القانون الدولي الإنساني وما تطرحه استعمالات الأسلحة التي تستخدم التكنولوجيات الحديثة من تحدّيات حادّة وشائكة، فكيف يمكن أن يواكب القانونُ ذو النشأة النمطية الإجرائية البطيئة النسقَ المتسارع والمنفلت للاكتشافات العلمية، التي أفرزت أسلحةً جديدةً، وأساليبَ مستجدّة للقتال، قد تؤدّي إلى ثورةٍ في تسيير وقيادة النزاعات المسلّحة، وإلى زعزعة أسس القانون الإنساني ودعائمه وفلسفته العامة؟

ما فتئت الحروب تؤرّق ضمير العالم، وتذكّره بما يحفّ بها من كوارث وأحزان ودمار وفقدان وآلام. ومع عجز المجتمع الدولي (بمختلف مكوّناته الدولية وغير الحكومية، ومبادراته الفردية والجماعية) عن كبح جماح الحرب ولجمها، ومنعها وإدانتها بصورة قطعية وفعلية، تجلّت ضرورة "أنسنتها"، والتخفيف من أهوالها وأضرارها، عبر قواعد دولية عامّة ومُلزِمة، وذات بعد عالمي تنطبق زمن الحرب، ويلتزم بها أطراف النزاع، وإن لم يوقّعوا المعاهدات التي تتضمّنها، لأنها قواعد عرفية تلزم الجميع وتكتسي طابعاً حيوياً وأساسياً، لا تُجيز مخالفتها ولا تقبل أيّ استثناء لأحكامها، كما هو شأن الأحكام الواردة في البروتوكولَين الأوّل والثاني لاتفاقيات جنيف لسنة 1977، والمتعلّقة بحماية المدنيين في النزاعات المسلّحة الدولية والداخلية.

يمكن أن تندلع حروب سيبرانية تصاب فيها بأضرار فادحة بنىً تحتيةٌ مدنيةٌ حيويةٌ للسكّان المدنيين، كالماء والكهرباء والعمليات المالية

تتمثّل أهم المبادئ التي تنظّم الحروب، وتهدف إلى حماية المدنيين بصورة أساسية، في مبدأ التمييز بين المحاربين والمدنيين، الذي يقتضي أن يمتنع المحارب عن استهداف السكّان المدنيين، وأن يحرص على تمييزهم بما يُسهّل التعرّف إلى صفتهم العسكرية، وأن يمتنع عن استعمالهم أدوات حرب أو دروعاً بشريةً أو توجيه أعمال عدوانية ضدّهم. ويتمثّل المبدأ الثاني في مبدأ التناسب، الذي يفترض أن يستعمل أطراف النزاع الأدوات والأساليب القتالية التي تتناسب مع الأهداف العسكرية المُستهدَفة، من دون أن تتجاوز الحدّ المطلوب لإضعاف العدوّ، ومن دون تشفّ أو تنكيل، مع الالتزام بالامتناع عن استعمال الأسلحة المحرّمة دولياً، وهذا يُحيلنا إلى مبدأ آخر تمخّض من معاهدة لاهاي، وهي معاهدة دولية إنسانية مدوّنة تتعلّق بقوانين وأعراف الحرب، أبرمت سنة 1907، وتتمثّل في أن الحقّ في اختيار أدوات الحرب وأساليبها من أطراف النزاع يجب أن يكون مقيّداً ومحدوداً وخاضعاً لضوابط إنسانية وأخلاقية دُنيا، ومن المبادئ التي يرتكز عليها القانون الدولي الإنساني مبدأ المعاملة الإنسانية، التي وردت تجلّياتها بصورة خاصّة في الفصل الثالث الموحّد لاتفاقيات جينيف الأربع، الموقّعة سنة 1949، الذي يحجر التعذيب والمساس بالحرمة الجسدية والكرامة الإنسانية ويمنع المعاملات اللاإنسانية المذلّة، والمحاكمات التي لا تحترم حقوق الدفاع. أضف إلى ذلك مبدأ التوقّي، وهو من المبادئ العامّة للقانون، التي تضع على عاتق كلّ طرف من أطراف النزاع اتخاذ الاحتياطات اللازمة والإجراءات المستوجبة لحماية السكّان المدنيين، وتجنيبهم ويلات الحرب، والتخفيض قدر الإمكان من الضحايا، ومن الأضرار التي تلحق بالأملاك المدنية.

استقلالية عن الفعل البشري

ويطرح استعمال التكنولوجيات الحديثة في تصنيع الأسلحة تحدّيات ورهانات كُبرى، تتعلّق بمدى تلاؤمها مع المبادئ المذكورة، ومدى استجابتها للضوابط الإنسانية والأخلاقية، التي يُفترَض أن تحكم إدارة النزاعات المسلّحة لا سيّما أنها قادرة على إحداث ثورة على مستوى وسائل وأساليب القتال، من حيث الدور المتنامي الذي تمنحه للآلة في مقابل التقليص من دور الجندي في حلبة القتال، فيكمن الخطر الأساس لهذه التكنولوجيات في إمكانية أن تتحكّم منظومات حاسوبية متطوّرة، ومستقلة عن كلّ سلطة بشرية مباشرة، في قرارات الموت والحياة، التي يفترض أن يتّخذها المقاتل أو رئيسه المباشر، وتشمل هذه الأسلحة المُستجدَّة أساساً المسيّرات المتطوّرة، والمنظومات المسلّحة المستقلة، والعمليات السيبرانية، ومنظومات الأسلحة الروبوتات. ما يجمع بين مختلف هذه المنظومات هو قدرتها الفائقة على تحديد الأهداف بدقّة كبيرة وهامش الاستقلالية المتصاعد عن الفاعل البشري، وإمكانية التحكّم فيها من بعد، ومن خارج مناطق العمليات العسكرية، وعلى مدى آلاف الكيلومترات في بعض الأحيان، وإمكانية تحميلها بشتّى أنواع الأسلحة والمتفجّرات، بما فيها الممنوعة وغير الشرعية، وإذا تطرّقنا على سبيل المثال إلى العمليات السيبرانية، التي تعتمد المنظومات المعلوماتية وشبكة الإنترنت، وتتميّز بطابعها المترابط (Interconnected)، ما يجعل التمييز بين الأهداف المعلوماتية العسكرية، وتلك المدنية أمراً صعباً بل يكاد يكون مستعصياً.

التناسب والتوقّي مبدآن يستوجبان أن تكون الوسائل القتالية مبرّرةً عسكرياً، وتتناسب والأهداف المباشرة

بذلك، يمكن أن تندلع حروب سيبرانية تصاب فيها بأضرار فادحة بنىً تحتيةٌ مدنيةٌ حيويةٌ للسكّان المدنيين، كالماء والكهرباء والعمليات المالية وغيرها من المعطيات المعلوماتية الشخصية، وتمثّل بالتالي مثل هذه العمليات، انتهاكاً لمبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية، كما تطرح إشكاليات قانونية تتعلّق بإثارة المسؤولية الجنائية الدولية المترتّبة من ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية والناجمة عن الهجومات السيبرانية، إذ يصعب تحديد المسؤول عنها بصورة مباشرة ودقيقة، نظراً لتحكم منظومات معلوماتية متطوّرة فيها.

الطائرات المسيّرة

كذلك الشأن بالنسبة للمسيّرات التي أثارت جدلاً كبيراً يتعلّق بمدى قدرتها على احترام حقوق الإنسان الأساسية، كالحقّ في الحياة، وفي محاكمة عادلة وقرينة البراءة، فقد استخدمت هذه التقنيات الحربية بصورة مكثّفة من القوى العظمى، وبصورة خاصّة الولايات المتحدة، في حربها على الإرهاب في أفغانستان وباكستان والعراق. تذرَّعت هذه الدول بشرعية هذه الحرب لتبرّر استعمال تقنيات متطوّرة تتميّز بالدقّة، وتستطيع تنفيذ اغتيالات مباشرة وتصفيات لإرهابيين مفترضين من دون أن يُتتبّعوا قضائياً ومحاكمتهم محاكمة عادلة، تتوافر فيها ضمانات حقوق الدفاع وحماية الحرمة الجسدية.

أضف إلى ذلك أن هذه المسيّرات التي استعملت أيضاً بصورة تعسّفية ومكثّفة من قوات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، خاصّة في قطاع غزّة، أدّت إلى أضرار فادحة في الممتلكات المدنية، وإلى استهداف مقنّع وممنهج للمدنيين، وإلى دمار كبير بسبب ما تحمله من مواد شديدة الانفجار، ومن أسلحة محرّمة، منتهكةً بذلك مبادئ جوهرية للقانون الدولي الإنساني، كمبدأي التناسب والتوقّي، اللذين يستوجبان أن تكون الوسائل القتالية المعتمدة مبرّرةً عسكرياً، وتتناسب مع الأهداف العسكرية المباشرة المنتظرة، وأن يتم اتخاذ كلّ التدابير الضرورية لتجنيب المدنيين آثار العمليات الحربية المدمّرة. فهل قتل آلاف المدنيين يبرّره أيّ هدف عسكري مهما بلغت ضرورته وشرعيته؟

وما يثير مخاوف أشدّ وقعاً أن هناك توجّها نحو جعل هذه المسيّرات ذات استقلالية مطلقة من حيث الاستهداف وتنفيذ العمليات العسكرية، من دون رقابة بشرية، ما جعل بعضهم يتخوّف من أن الحكومات التي تحارب الإرهاب قد تتحوّل إلى ديكتاتوريات أشدّ خطورة من الإرهاب ذاته باعتبار أنها تضرب عُرْضَ الحائط بالحقوق الأساسية للإنسان، فقرار الموت الذي تتخذه وتنفّذه مسيّرات يجب أن يخضع إلى ضوابط صارمة لتحصينه.

منظومات الأسلحة المستقلة

فيما يتعلّق بمنظومات الأسلحة المستقلّة، فهي أكثر شموليةً باعتبار أنها يمكن ان تستخدم الروبوتات والمنظومات المعلوماتية المتطوّرة والذكاء الاصطناعي، وما يميّزها هو قدرتها على التحكّم الذاتي وخاصّة القاتلة منها (Lethal autonomous weapon system)، فهي تطرح إشكالات تتعلّق بمدى قدرتها على التمييز بين المدنيين والمحاربين، لا سيّما في إطار الحروب غير المتناظرة، التي تقوم على اختلال في موازين القوى بين الأطراف المتنازعة، تجعل الطرف الأضعف يستعمل أساليب قتال غير شرعية، تتركّز في عدم احترام مبدأ التمييز والاختلاط بالسكّان المدنيين، فهل يمكن لهذه المنظومات أن تميّز المحارب، الذي استسلم أو وضع خارج القتال بسبب جروحه أو مرضه، وهم أصناف من الأشخاص المحميين من القانون الدولي الإنساني؟ وهل يمكن لمنظومة أوتوماتيكية أن تلتزم بالواجب المحمول على أطراف النزاع، وفقاً للقانون الإنساني، بإلغاء أو إيقاف العمليات العسكرية، التي يمكن أن تلحق أضراراً مفرطة وغير مُبرّرة أو آلاماً يمكن تجنّبها؟... استعمال هذه المنظومات يفضي إلى استحالة المحاسبة، وإثارة المسؤولية في صورة خرق خطير لقواعد القانون الدولي، وما يترتّب من ذلك من استفحال ظاهرة الإفلات من العقاب، التي تشكّل عائقاً أساساً يحول دون ضمان فاعلية القانون الدولي الإنساني واحترامه من أطراف النزاع، ويُعيق الالتزام بمبادئه.

لا يمكن إخضاع الجماعات المسلّحة التي لا تخضع لإرادة الدولة، حين تحوز تقنيات متطوّرة، للالتزامات الدولية الإنسانية

والمرجّح أيضاً أن الجماعات المسلّحة المنظّمة، التي لا تخضع لإرادة الدولة، بل غالباً ما تكون في مواجهة مع أجهزتها، قد تتمكّن من أن تحوز هذه التقنيات المتطوّرة بطريقة أو بأخرى، والحال أنه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال إخضاعها للالتزامات الدولية الإنسانية، بل يمكن أن تتمرّد عليها باعتماد مبرّرات شتى، تجعلها في حلٍّ من كلّ ارتباط إنساني أو أخلاقي، يتعلّق بإدارة العمليات العسكرية. لذلك، فإنه مع تصاعد النزاعات المسلّحة الداخلية، وتخاذل المجتمع الدولي عن ردعها ومراقبتها، وسعي الدول المعنية إلى اعتبارها شأناً داخلياً صرفاً، أصبح استعمال هذه الأسلحة أمراً أكثر اعتباطية وارتجالاً وخطورةً، نظراً لعدم القدرة على التحكّم فيها ومراقبة استخدامها.

استراتيجية الهيمنة

كما أن التداعيات الخطيرة لهذه التكنولوجيات الحديثة للتسلّح تتجاوز ذلك لتشكّل تهديداً حقيقياً للسلم والأمن الدوليين، باعتبار أنها تُؤجّج السباق المحموم على التسلّح، وتعرقل الجهود الدولية المبذولة لنزع السلاح، والتحكّم في استعمالاته وإخضاعه لقواعد وقيود صارمة، ذلك أن الأقوى هو من يمتلك هذه الأسلحة المتطوّرة، ويحتكر استعمالها للهيمنة على العالم، وردع بقية الدول، ومزيد من إخضاع الدول الضعيفة لإرادتها وسطوتها ونهب ثرواتها ومقدراتها، فهي إذاً أدوات استراتيجية للهيمنة، وللدفاع عن المصالح، ما يعمّق "الفجوة الرقمية"، والاختلال في موازين القوى بين دول العالم النامي والدول المتقدّمة.

كما أن هذه الأسلحة ستؤدّي إلى تفاقم النزاعات والعنف واندلاع الحروب بصورة تتجاوز أحياناً إرادة الأطراف المتداخلة ورقابتها، وتجعل التحكّم في مآلاتها وتبعاتها أمراً صعباً، ولعلّ أشدّ المتضرّرين منها هم المدنيون، الذين لم يشاركوا مباشرة في العمليات العسكرية، ولم يكونوا سوى ضحايا لها، أمام هذه المخاطر التي يمكن أن تُهدّد الإنسانية بأكملها، يعجز القانون الدولي الإنساني عن إيجاد حلول وأجوبة قانونية لكلّ التحدّيات، التي تطرحها استعمالات التكنولوجيات الحديثة في الحرب، لا سيّما فيما يتعلّق بالمرافقة والتعديل والتأطير والتأويل، بما يتناسب مع مبادئه القانونية ويتلاءم معها.

في هذا الصدد يتجلّى التصادم بين المناهج القانونية والمناهج العلمية، وبين نسق الاكتشافات العلمية المتسارع، ونسق اعتماد القواعد القانونية البطيء والإجرائي والإرادي، لا سيّما في مجال القانون الدولي، الذي يرتكز بصورة محورية على الأعراف الدولية، التي تستدعي ديمومة الممارسات وامتدادها زمنياً وجغرافياً، لكي يقع تبنّيها قواعد عامّة وملزمة، كما يحتكم إلى مبدأ سيادة الدول والإرادية والتفاوض والتوافق، ما يجعل تشكلّه أكثر تعقيداً وعسراً وصرامة، فتكون القواعد القانونية متأخّرة غالبا ومتباعدة وغير قادرة على مواكبة النسق المتسارع للتكنولوجيات الحديثة، أضف إلى ذلك أن التعديل القانوني يفترض أن يكون رجل القانون ملمّاً بكل المسائل المتعلّقة بالتقنيات المعتمدة واستعمالاتها المتعدّدة، وآثارها وأنظمتها المعلوماتية وإمكانيات التحكّم فيها والسيطرة عليها، وهو أمر غير متاح بصورة واقعية، نظراً إلى أنه حقوقي الاختصاص والتوجّه.

تقنين وإشراف إنساني

لذلك، تفطّن المجتمع الدولي إلى ضرورة تقنين هذه الوسائل القتالية الحديثة، فمع التذكير بضرورة خضوعها لمبادئ القانون الدولي واحتكامها له، يجب أن يتزامن ذلك مع وضع قواعد دولية جديدة وملزمة، تتناول بصورة دقيقة مختلف جوانبها واستعمالاتها لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأمان القانوني والقدرة على التقدير والتنبّؤ باستعمالاتها الممكنة و"أنسنتها".

يجب وضع قواعد دولية ملزمة، تتناول استعمالات الوسائل القتالية الحديثة، لـ"أنسنتها"

ويحمل التقنين أوجهاً عدّة، تتراوح عادة بين التحجير أو تقييد الاستعمال، والحدّ من السلطة التقديرية لأطراف النزاع في استخدامها، كما تشمل أيضاً جوانب التصنيع والحيازة والاتجار، وفي هذا الصدد يمكن ذكر الجهود التي تبذلها الهيئة الدولية للصليب الأحمر في دعوة الدول إلى ضرورة التفاوض والتوافق حول نظم قانونية جديدة، وفي تقديم مقترحات وتقارير قانونية وعملياتية تساعد رجل القانون على الإحاطة بالمفاهيم والخصائص المرتبطة بالأسلحة الجديدة، ففيما يتعلّق بالمنظومات الحربية المستقلّة حرصت الهيئة الدولية على الدعوة لوضع قواعد جديدة شاملة تحجر حجراً قطعياً كلّ المنظومات التي لا تخضع لرقابة بشرية، وتحصر استعمالها في الأهداف العسكرية من دون غيرها، وتحجر توجيهها ضدّ الإنسان، وفي الحالات التي يسمح باستعمالها تقيّد بضوابط مشدّدة تتعلّق بالعلاقة بين الإنسان والآلة والتفاعل بينهما، وضرورة الإشراف الإنساني عليها، وإمكانية التدخّل في الوقت المناسب لغلقها وتحييدها، كما أعربت الهيئة عن انشغالها نظراً لتوافر هذه المنظومات وإمكانية حيازتها بصورة متصاعدة ومطردة.

خاتمة: نحو قانون دولي للتكنولوجيا الحديثة

تدخّلت منظمة الأمم المتحدة، وبصورة خاصّة الجمعية العامّة لتبنّي مقرّرات تقرّ بخطورة الحروب السيبرانية، وتدعو إلى أن يكون الفضاء مجالاً للتعاون والسلام، وأن يُحصَّن من الحروب والنزاعات ومن سباق التسلح، ما يستدعي اعتماد منظومة دولية شاملة وملزمة للأمن السيبراني وللأنظمة المعلوماتية والاتصالات، لحماية البرمجيات وأجهزة الحاسوب، والأمر الذي يستوجب أيضاً إقرار ضوابط أخلافية لمختلف استعمالات الذكاء الاصطناعي في الحروب لدرء المخاطر التي يصعب التحكّم فيها، إلا أن هذه المقترحات لم تترافق مع استحثاث النظر والتقنين من طرف الدول، ولا تزال تراوح مكانها منذ سنوات.

هذا الفراغ التشريعي قد يفتح المجال للاستعمالات التعسّفية والانتقائية، فعلى سبيل المثال تعاني الهيئات والآليات الدولية لنزع السلاح من بطء ومن شبه شلل في عملها، ما يجعل الحصيلة التشريعية لمجابهة استعمالات التكنولوجيات الحديثة هزيلةً وضعيفةً ودون المأمول، ولا تستجيب لعمق التحدّيات المطروحة على الإنسانية قاطبة، فطغيان المصالح وعلاقات القوة والهيمنة والتنازع على مناطق النفوذ صرف اهتمام الدول عن الاستحقاقات الإنسانية الملحّة، وجعلهم ينزعون إلى الفردانية والمكيافيلية في تناول ملفّ الأسلحة الحديثة، فهرعوا إلى التنافس والتسابق على التسلّح والريادة في مجال الاكتشافات العلمية الحربية، عوض الانكباب على إعداد مقاربات متعدّدة الأبعاد والاختصاصات لمعالجتها، تشمل القانون والتقنيات والفلسفة والسياسة والدين والوازع الإنساني الجامع لكلّ البشر، وترمي إلى أخلقة العلوم، وأنسنتها، وجعلها في خدمة الإنسانية، عوض أن تكون أداةً للدمار والخراب والهيمنة.

لا بدّ من بناءٍ متكاملٍ يُفضي إلي صياغة قانون دولي للتكنولوجيات الحديثة، يتجاوز زمن الحرب، ليشمل أيضا أزمنة السلم بمختلف تقلّباتها ورهاناتها، ويحتكم إلى الضمير العمومي الدولي، وإلى الأعراف الإنسانية والضوابط الأخلاقية، لإحلال سلم وأمن دوليَّين دائمَين قبل فوات الأوان.

17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
نجيبة بن حسين

أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية

نجيبة بن حسين