Skip to main content
فتية تايلاند.. ومظلوميتنا
معن البياري
فنان هندي يجسّد في بلده محنة الفتية التايلانديين (10/7/2018/Getty)
لم تكن العملية المعقّدة، والتي تتابعت أياما، لإنقاذ 12 فتىً تايلانديا، ومدرّبهم في كرة القدم، عَلِقوا نحو أسبوعين في كهفٍ حوصر بمياه فيضانٍ، لم تكن مناسبةً لعربٍ كثيرين، لكي يتأملوا في الجهد الإنساني العظيم لحماية هؤلاء الآدميين من موتٍ كان قريبا منهم. ولا كان هذا الحدث الذي استنفر الإعلام لمتابعته لحظةً بلحظة، وصورةً بصورة، مناسبةً لهؤلاء العرب الكثيرين لإجلال إرادة التفاني التي اتّصف بها القائمون على عملية الإنقاذ، والغوّاصون الذين قاموا بها، من أجل أن يستأنف المحاصرون الصغار حياتهم، ومباهجَهم في لعبة كرة القدم التي يزاولونها في فريق محلي. .. لم يلتفت العرب الكثيرون هؤلاء إلى المغازي الغزيرة التي تنطق بها هذه الواقعة النادرة. ولم يجدوا في أنفسِهم ضرورةً لتأمل المشاهد التي تلاحقت، في التلفزات وعلى شاشات الهواتف، لغوّاصين ومسعفين ومتطوعين وعاملين وبشرٍ كثيرين بين غاباتٍ ومياه، يجدّون من أجل هدفٍ لا أجلّ ولا أرفع، إنقاذ ناسٍ من الهلاك. لم ير العرب الكثيرون هؤلاء شيئا يستثير أخيلتَهم ومداركَهم في مشاركة خمسين غوّاصا قدموا من أميركا وبريطانيا والصين وأستراليا (وغيرها) لمشاركة أربعين غوّاصا تايلانديا في تدبير أنسب الوسائل لانتشال الفتية ومدرّبهم سالمين من كهفٍ محاطٍ بالمياه، تحت جبلٍ ناءٍ، ومن أجل القيام بالمهمة الفريدةِ هذه. 

ما اعتنى به العرب الكثيرون هؤلاء هو لعن العالم، لأنه يُنفق كل هذا الوقت، ويخصّص كل هذه الكاميرات في مجهودٍ إعلاميٍّ مهول، ويحرص بكل طاقةٍ ووسيلةٍ على نجاة اثني عشر فتىً تايلانديا، أخذتهم تسليتهم إلى ورطتهم تلك، ثم لم يُتركوا لقضاء الله وقدره، فيما لا يكترث هذا العالم، في الغرب وغير الغرب، بضحايانا، نحن العرب، أطفالا وغير أطفال، في سورية وفلسطين والعراق واليمن و...، وإذا حدث وتكلم متعاطفا، لا يفعل شيئا يسيرا من قبيل ما صنعه من أجل فتيةٍ تايلانديين تائهين. وبذلك، جاءت واقعة كهف تام لانغ في البلد الآسيوي الجذّاب لتجدّد ما نواظب عليه، نحن العرب، بكفاءةٍ، لعن العالم الذي يكرهنا، فيما يحب التايلانديين هذه المرة، ولا يحفل بضحايانا في بلادنا.
هل حقا هو العالم هكذا؟ فعلا، لماذا لا يثير موتانا في جوائح تتوالى بين ظهرانينا تعاطف العالم الذي يُغدق على صبيةٍ في كهفٍ في تايلاند أطنانا من العواطف؟ السؤالان وجيهان ربما، على أن يُقَرَّ بأن فينا، نحن العرب، عطبٌ ظاهر، موجزُه أن الثقافة الإنسانية الخالصة ناقصةٌ فينا، ولا تُحوز في جوانحنا موطنا مركزيا وجوهريا، على الرغم من فائض التديّن الذي يشيع في مجتمعاتنا. ولغير صاحب هذه الكلمات من أهل السوسيولوجيا أن يدققوا في هذا الكلام، ويشرّحون كل هذا الاسترخاص للحياة، المقيم في سلطاتٍ حاكمةٍ غاشمةٍ بيننا، وفي مجموعات تعتنق سنّة قتل المختلفين معها.
أما نبرة المظلومية التي نبدو عليها، وبيننا كثيرون يسألون ذينك السؤالين، فمعروفةٌ أسبابها على الأرجح. ومنها ما توطّن في المنطقة العربية من مظالم غير هيّنةٍ تعود إلى مسؤولية احتلالات وجولات استعمار ونوبات استنزافٍ معلومة، في تاريخٍ غير بعيد، وفي بعض الراهن أيضا. ولكن ليس صحيحا أن العالم هو كما يرميه كثيرون منا بالظنون السوداء. وغير صحيحٍ أنه بخيلٌ في عواطفه تجاه ضحايانا، ومفرطٌ فيها تجاه ضحايا غيرنا. وإنما يعود الحال إلى أمرين، قد يتفرّع منهما كثيرٌ غيرهما: أولا، أننا لم نعرف بعد كيف نوضح للعالم حالنا، ضحايا ومستغَلّين، وأن إسرائيل كيانٌ مضادٌّ للإنسانية. وثانيا، أن أكثر ضحايانا ما صاروا ضحايا إلا بأيدينا. وهذا نظام الأسد بيّن المعالم، وبيينا من يتغنّى بصموده. وهذا نظام عبد الفتاح السيسي يقضي في سجونه 650 مصريا، من دون أن يُلحظ أي احتجاجٍ يتعاطف مع هؤلاء الميتين. وفي العراق، ثمّة سنةٌ يقتلون شيعةً، وشيعةً يحشدون للإجهاز على سنّة، وضحايا هؤلاء وأولئك في مساجد وأسواق، وفي ميادين وشوارع، ليس لدى العالم عواطفُ فائضةٌ يُنفقها عليهم، ما دامت أسباب إزهاق أرواحهم لا تشجّع على ذلك. أما عن اليمن، فالعالم الذي نلعن هو من يعرّفنا بأعداد من تفتك بهم الكوليرا وبطولات المتحاربين الأشاوس.
بإيجاز، ثمّة أسبابٌ، تخصّنا وتتعلق بنا، تجعل العالم لا يمحضنا عواطف سخيةً كالتي غبطْنا عليها أولئك الفتية التايلانديين.