فايز النوري .. شخصية طريفة

فايز النوري .. شخصية طريفة

20 فبراير 2022
+ الخط -

فايز النوري، رئيس محكمة أمن الدولة السورية الذي توفي يوم الخميس، العاشر من فبراير/شباط الجاري، عن 80 عاماً، ليس أكثر من شخصية عملت، في فترة ما، ضمن الفريق الإجرامي لحافظ الأسد ووريثه. هذه الشخصيات ينطبق عليها ما همس به رئيسُ إحدى المنظمات الشعبية لصديق زاره في مكتبه ذات يوم. سأل الصديق رئيسَ المنظمة عن السر الذي جعله يبقى على كرسيه منذ 20 سنة، لا يتزحزح، وقبل أن يجيبه عن سؤاله الخطير، دخل عاملُ البوفيه حاملاً فناجين القهوة، فسكت، وبعدما خرج، قال: إذا كنت تعرف أنّ حافظ الأسد يمكن أن يشيلك، في أية لحظة، ويضع مكانك عامل البوفيه الذي يقدم القهوة لضيوفك، تستمر إلى ما شاء الله.

فايز النوري، للأمانة، كان شخصيةً مهمة، وطريفة. هاتان الصفتان (مهمة وطريفة) نحن نطلقهما، عادة، على الشخصيات النبيلة، النافعة للمجتمع، مثل طه حسين، وأبي خليل القباني، وفخري البارودي، مثلاً... لكن، هذا فهم خاطئ، بمعنى: أوَلَم تكن شخصية هتلر مهمة، وطريفة؟ وكذلك موسوليني؟ وستالين؟ وصدّام حسين؟ والحجاج؟ أهمية فايز النوري، وطرافته، تأتيان، في الواقع، من أنه يعرف شخصيةَ حافظ الأسد على حقيقتها، ويستطيع إرضاءها، بالإضافة إلى الصلاحيات الواسعة التي أعطيت له.. تخيّل، يا سيدي، عشرة أجهزة قمعية، على الأقل، كانت تعمل، في الليل والنهار، على شَحط المواطنين السوريين من منازلهم، وتجميعهم في أقبية تشبه الخزّانات، ثم تسوقهم، زرافاتٍ ووحداناً، ليمثُلوا بين يدي ذلك المجرم، ويُقال له، ما معناه: انظر، يا فايز، هؤلاء معادون للقائد المفدّى حافظ الأسد، ولذلك تستطيع أن تأخذهم هكذا، (دوكمه، وشيلة بيلة)، من دون قيود، واعلم أنّه لن يجرؤ أخو أخته في سورية الأسد، أن يطالبك بهم، أو يحاسبك على ما تفعله بهم.

يمكن للإنسان أن يتخيّل أن ذلك الشخص ذا الأهمية القليلة (أم نقول: التافه؟)، جالساً وراء طاولته العسكرية الخشبية المتسخة، وثمة حافلةُ ركابٍ كبيرةٍ متوقفةٍ في الباحة الخارجية، تُفرغ حمولتها من أطباء ومهندسين وحاملي شهادات عليا في التاريخ والفلسفة والعلوم، والطماشات مشدودة على أعينهم، ويؤتى بهم إلى أمامه، ليوزّع عليهم اللصاقات الحكمية الشهيرة: أنت، يا ابني، معاد للنظام الاشتراكي، ومتهم بحيازة أسلحة، وتفكّر بالانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين. لذا حكمنا عليك بخمس سنوات. انقلع. وإذا لم تعجبه وقفة السجين، أو نظراته، سرعان ما يطلب من مساعده أن يقتلع لصاقة الخمس سنوات، ويضع مكانها لصاقة العشر، أو المؤبد، أو الإعدام، بعد إضافة تهم أخرى، من قبيل شتم رئيس الدولة، ومحاربة الدستور، وتأسيس تنظيم سرّي لقلب نظام الحكم، والتخابر مع الدوائر الاستعمارية والصهيونية العالمية.

وإمعاناً في الإهانة، والقهر، والامحاء، ترى المعتقلين الغلبانين الذين ينتظرون أدوارهم في الخارج يتهامسون، فيوصي أحدهم الآخر بألا يقول ما يُغضب التافه فايز النوري لدى سماعه الحكم، وأن يكتفي بالهتاف "يحيا العدل"... إن لم تفعل ذلك يغضب، ويبدل لك اللصاقة.

كان المجرم فايز النوري يعاني، في بعض الأحيان، من ضغط العمل، فبعدما يقرّر إعدام عشرين، وإصدار تشكيلة من الأحكام على المعتقلين، يُصاب بشيء من الملل، ووقتها يبدأ تنكيته الذي يشبه اللطم المباغت على المناخير. ويُروى عنه أنّه فضّ نزاعاً بين قاضيين متدربين، اختلفا حول تسعة معتقلين، كان قد أوصاهما بإعدام نصف عددهما، فلمّا قالا له إن الرقم مفرد، ضحك وقال: أعدموا أربعة ونص. وإذا شئتم اجبروا الكسر، وأعدموا خمسة. ومرّة؛ حكم على أحد المساقين إلى مسلخه بلصاقة خمس سنوات، وبعدما قال الرجل يحيا العدل، ومشى، تذكّر أنّه ابن بلده، فصاح به: تعال تعال. مو أنت ابن فلان؟ قال المتهم: بلى. فقال: من زمان أبوك استعار من أبي قاشوشة الجب، ولم يُعدها له. حكمناك عشر سنوات.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...