غوستافو بيترو القادم من عالم آخر
رئيس كولومبيا غوستافو بيترو يتحدّث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (23/9/2025 Getty)
إلى عهد قريب، لم يكن أكثرنا قد تعرّف إلى رئيس كولومبيا، غوستافو بيترو. حتى أهل غزّة لم يكونوا يعرفونه قبل أن يرفع صوته من أجل خلاصهم. قدم إلينا من عالم آخر، ومن تراث مختلف، من بلاد الأمازون التي يقول تراثها الأسطوري إنها تختبر رجالها بقدرتهم على إبقاء عيونهم مفتوحةً، وأيديهم على الزناد، حتى وهم راقدون في أسرّة النوم، كما تُختبر نساؤها بمقدار حماستهن في المشاركة في حروب الرجال، إلى درجة أنهن لا يتورّعن عن قطع أثدائهن كي يستطعن إطلاق السهام بمرونة عند مواجهة الأعداء.
يعطينا غوستافو بيترو ابن الأمازون دروساً، ليس في الصمود فحسب، إنما في المواجهة المباشرة مع الأعداء. يعرض علينا 20 ألفاً من رجاله نواةً لقوة عالمية تحرّر فلسطين، واضعاً نفسه واحداً منهم، وداعياً دول العالم كي تشارك في قوة كهذه. ينبّهنا إلى "أن الشجب والتنديد وحدهما غير كافيين لمواجهة جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين"، مطالباً بأن يُحال زعماء إسرائيل على المحكمة الجنائية الدولية لضلوعهم في ارتكاب جرائم حرب وإبادة، مصنّفاً الرئيس الأميركي دونالد ترامب شريكاً في الجريمة.
يعطينا بيترو ابن الأمازون دروساً، ليس في الصمود فحسب، إنما في المواجهة المباشرة مع الأعداء
وبيترو الذي كسر طوق سيطرة اليمين على القرار في بلاده التي امتدّت دهراً، وعطف بلده نحو اليسار على نحو لم يتوقّعه أحد، أعادنا بطروحاته أخيراً أمام المحفل الدولي إلى زماننا الذهبي الذي رحل مع أهله، الذي كانت فيه فلسطين قضيتنا الأولى. أيقظ بيترو فتوّتنا، وداعب آمالنا، وغامر في أن يكرّس حلم تحرير فلسطين، وأن ينهي الفلسطينيون رحلة التيه الطويلة بعدما تكسّرت النصال على النصال. قال لهم إن الحلم الذي أوشكت أن تطويه الأيام أصبح على مقربة من التحقق. وغمز بيترو من قناتنا عندما ذكّرنا بأن زمن الأقوال آن له أن ينتهي، وآن للعرب أن يُقدموا على فعل، و"أن يعيدوا التفكير في مسألة الحياة والكرامة"، لكننا لم نُنصت له، ولم نذكره بالخير، فقد أخذتنا همومنا اليومية بعيداً، بعدما فرض علينا حكّامنا البحث الدائب عن فسحة ضوء أو جرعة ماء أو حبّة دواء، وفقدنا قدرتنا على الكفاح من أجل حياة كريمة عادلة، ولم يعد هتافنا "هيهات منا الذلة" سوى مثار سخرية وتهكم من أصدقائنا قبل أعدائنا، وفي أحسن الأحوال كان مدعاة لجلد الذات، والانكفاء على النفس، فيما الذلّة تحيط بنا من كل جانب، ولم يبقَ لنا سوى انتظار ما تجيء به الأيام، ونحن صاغرون.
حتى قنواتنا الفضائية وصحفنا تجاهلت طروحات بيترو ولم تأبه لها، وربّما أشار بعضها إليها عرضاً، أو من قبيل لزوم ما لا يلزم، ولم تكلّف تلك القنوات والصحف نفسها عناء التعريف بقائلها الذي وضع صورة العلم الفلسطيني في صفحته الشخصية في "فيسبوك"، كما فتح شارعاً في عاصمة بلاده بوغوتا باسم "شارع دولة فلسطين"، وجعل فلسطين قضيته مع أنه يقيم في قارة بينها وبين فلسطين آلاف الأميال، كما لم يتورّط المحلّلون الذين يقرعون أسماعنا بتعليقاتهم السمجة كل ساعة في التعليق على ما دعا إليه بيترو، ربما لأن لا أحد سيدفع الثمن، وحتى قارئو المستقبل وما تضمره الأبراج لم يدرجوا في نبوءاتهم اسمه لأنه لم يعد من ذوي الحظوة لدى الحكّام، خاصّة بعدما اتخذ الأميركيون قراراً بإلغاء تأشيرة دخوله إلى الولايات المتحدة، ذلك القرار الذي قابله بيترو بإشارته اللافتة إلى أنه غير مهتم بذلك، ولا يحتاج إليه، وهو "رجل حرّ، وليس مواطناً كولومبياً فحسب، إنما أوروبي أيضاً".
حتى قنواتنا الفضائية وصحفنا تجاهلت طروحات بيترو ولم تأبه لها
لم تنته حكاية بيترو هذه فصولاً، فقد نزل في شوارع نيويورك ليقود تظاهرة بنفسه من أجل فلسطين في واقعة نادرة تحسب له، وقد اختار هذا الموقف الاستثنائي الذي لم يكن رئيس دولة ليتجرّأ أن يُقدم عليه، لكن بيترو نموذج متفرّد في لعبة الحكّام فقد عرف النمط البروتوكولي في التعامل، وتمكّن من كسره بشكل رائع... ذلك كلّه كان من أجل فلسطين التي جعلها قضيته، وقد اختار الشارع مكاناً لإعلان موقفه هذا، المدهش وغير المألوف.
وبعد هذا كلّه، دعونا إذاً نذكر غوستافو بيترو بالخير، ونحتفي به، وبطروحاته، وأن نبادله المحبّة بالمحبّة، والتقدير بالتقدير.