غواية "الفيل يا ملك الزمان"
ليس عرض مسرحية سعد الله ونّوس "الفيل يا ملك الزمان" على خشبة مسرح مهرجان الغرّة للآداب والفنون في الدوحة الأول لها على واحدٍ من مسارح الدوحة، فقد اختارت فرقٌ مسرحية، شبابية ومحترفة، تجسيد هذا العمل في مهرجاناتٍ محليةٍ غير مرّة سابقاً. كما أن الدوحة ليست المدينة العربية الوحيدة التي شوهد فيها نصّ السوري الراحل (1997 عن 56 عاماً) مشخّصاً، فمنذ أول عرض له، شهوراً بعد كتابته في 1969، في مهرجان دمشق المسرحي، بإخراج علاء الدين كوكش، تعدّدت تجاربُ وتنويعاتٌ ومقارباتٌ له على خشباتٍ كثيرة في الخليج ومصر والمغارب ولبنان وسورية. وأن يلتفت مجدّداً إلى ملك الزمان وفيله المخرج ماهر صليبي فذلك يعني أن "جاذبيّة" هذا النصّ ما زالت على عافيتها، وأن "غوايةًً" فيه تجعل مخرجين وصنّاع مسرح، في غير بلدٍ عربي، ينصرفون إلى المنطوق الذي يتوفّر عليه، وإلى فائضٍ من البساطة العميقة فيه، وإلى ما يتيحُه من ممكناتٍ جماليةٍ في وسعهم أن يقترحوها ويُنجزوها عند تشخيصه، على ما فعل كثيرون "انجذبوا" إلى "الفيل يا ملك الزمان"، ومنهم المخرج المصري حسام عطا، قبل تسع سنوات، عندما يسّر للعرض أشعاراً وأغنيات، و"مسرَحَه" بكيفيّةٍ مشهديّةٍ أضافت إلى أنفاس سعد الله ونّوس حرارةً أخرى. وأظنّه أصاب المخرج القطري، فهد الباكر، الذي عرض هذا العمل، برؤيته، في مختتم ورشةٍ مسرحيةٍ في الدوحة في سبتمبر/ أيلول الماضي، لمّا قال إن "الفيل يا ملك الزمان" من أهم المسرحيات التي تُظهر قدرات الممثلين.
كتب ونّوس مسرحيتَه، المُغوية هذه، بعد عام من كتابته "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، التي تبقى من عيون الأدب العربي الذي قارب هزيمة حزيران (1967) بجماليّةٍ فنيّةٍ تجريبيّةٍ جريئةٍ في الشكل والمضمون والمرسلة والبناء. ولا يُغادر واحدُنا صحيح القول لو قال إن "الفيل يا ملك الزمان"، وهي النصّ الثاني عشر له (بين 25 نصّاً) نوعٌ من استئناف هذه المقاربة، وإنْ لا يُؤتى فيها، تصريحاً أو تلميحاً، إلى الهزيمة العربية المشهودة. ولك أن تقول إن كاتبَنا الباقي عندما يكون، في عامه الثامن والعشرين، مشغولاً بآفة الظلم (المؤذِن بخراب العُمران، بحسب ابن خلدون)، في هذا النصّ القصير المكثّف (ثلاثة مشاهد)، فإنه يرمي إلى تعيين أسباب خرابٍ أخذ الأمة إلى ما وقع في حزيران. غير أن ونّوس يوازي وجود الظلم الذي يقترفه الحكّام المستبدون بوجود من يصمتون عليه، من يتوطّن فيه الخوف وهم يتعايشون معه، وهم يزيّنونه. وهنا المقولة الأساس في "الفيل يا ملك الزمان"، بسطها في غير مكانٍ وزمانٍ متعيّنيْن، طرحها مرسلةً في حدّوتة أهل المدينة التي يقتلُ فيها فيل الملك أطفالاً ويروّع الناس ويخرّب الزرع، ثم يحثّهم واحدٌ منهم بأن يجتمعوا على قولٍ واحد، يرفضون فيه استباحة الفيل عيشَهم، ثم يُبلغونه إلى الملك. لكنهم ما إن يصلوا إلى الملك في قصره، متأدّبين، يتلعثمون، ولا ينطقون بشيء، ويبتهج الملك بمطلبهم تزويج الفيل بفيلة، ليُخلّف فيلا أو اثنين. يقرّر الملك هذا، وتنتهي الحكاية التي توجز عن السلطة عندما تتجبّر وتثير الفزع، وعندما يحني المحكومون رؤوسَهم للحاكمين باستسلامٍ لهم، وتسليمٍٍ بالذي يريدون ويقرّرون.
شاهدنا، ساعةً، في حديقة الأكسجين (اسمُها مستحقّ) الحكاية هذه على المسرح، عرْضاً كان فيه مخرجه ماهر صليبي وفيّاً لنص سعد الله ونّوس، مع قليلٍ من التدخّل، وقد أضاف، في أثناء جريان حركة الممثلين في ساحة المدينة وفي قصر الملك، ثلاث أغنيات، بالفصحى (لغة المسرحية) كتبها محمد أسعد (تأليف وتوزيع موسيقي كرم صليبي)، أوحَت وأضاءَت وأمتَعت. وكان من جميل المشهد العام على الخشبة التوزّع في حيوية الممثلين (22 من عدّة أعمار) وحركتهم (تصميم إياس المقداد) في جنبات المسرح، مع اهتمامٍ ظاهرٍ بتنويع أدائهم وأصواتهم، وقد أجادوا، ساهمت الإيقاعات الحيّة (عزف عبد الهادي الحمصي) في معايشتنا، نحن النظّارة، ما كنّا نشاهد قدّامنا من غضبٍ وحنقٍ وخوفٍ وخضوع وتسلّط ومفارقاتٍ... وكل ما نجح في تأديته جمال سليمان ورشيد ملحس وهزار الحرك ومؤيد الخراط والطفلتان تاج مراج وسيلينا نهار ولارا سرانك وسهير صالح ومؤيد الخراط وفرح الدبيات وميراي جحجاح زملاؤهم. شكراً لهم، شكراً لماهر صليبي ومعاونته في العمل الممثلة المعروفة يارا صبري. أكّدوا مجدّداً أن نصّاً عابراً للأزمان والجغرافيات كتبه مبدعٌ مكين، اسمُه سعد الله ونّوس، في الوُسع أن تتعدّد منظورات الشُّغل عليه، وأن نبتهج به، فلا عتاقةً فيه، في مساءٍ باردٍ في الدوحة، بعد 55 عاماً على كتابته.