غموض ما بعد اتفاق غزّة

20 يناير 2025

أطفال فلسطينيون في مخيم النصيرات في غزّة يحتفلون بوقف إطلاق النار (19/1/2025الأناضول)

+ الخط -

على أهمية اتفاق إنهاء الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، وما يتضمّنه من ترتيبات وجوانب متعددة، وبنود ستقضي بتنفيذه على مراحل، تظلّ الأهمية الأكبر تتركّز في "اليوم التالي"، أي مرحلة ما بعد تنفيذ الاتفاق، أو بعبارة أدقّ البدء في تنفيذه؛ فإكماله واستمرار العمل به لا يزالان محلّ شكٍّ، خاصّة مع حكومة إسرائيلية يمينية مراوغة، وانقسام فلسطيني وتنافس عربي، ليس مستقبل غزّة ولا حلّ القضية أولوية حقيقية لديهما.
ثمّة مفارقة غريبة في "اليوم التالي" لقطاع غزّة، فاستحقاقاته ومقتضياته متنوّعة ومتداخلة ومتباينة في الوقت ذاته، وقد ظهرت بوادر تلك الفسيفساء بالفعل، إذ يدّعي كلّ طرفٍ أنه خرج منتصراً من الحرب، وحقّق أهدافه بأقلّ خسائر، وينتظر تحصيل المكاسب. وإن كان ذلك يتعلّق بالأطراف المباشرة في الحرب، أي حركة حماس وإسرائيل، فإن أطرافاً أخرى تتطلّع إلى إيجاد مكان لها أو تحسين موقعها في معادلات ما بعد الحرب.
من أهم استحقاقات اليوم التالي أن الحساب والمساءلة ستطاول القوى والأطراف ذات الصلة، بدءاً بنتنياهو وحكومته، التي تسبّبت بتخاذلها في هجمات 7 أكتوبر (2023)، ثمّ استمرار احتجاز الرهائن 15 شهراً، بينما ستجد حركة حماس نفسها مطالبة بتفسير مفهوم ومعنى "الانتصار"، في ظلّ استشهاد 50 ألف فلسطيني، وتشريد مليونين آخرين، فضلاً عن الدمار الشامل الذي تعرّض له قطاع غزّة، الذي سيحتاج إلى عقود لإعادة إعماره، إن أُتيح ذلك ولم تحلْ دونه حرب أخرى أو مغامرات جديدة.
أمّا الدول العربية، فربّما هي الأكثر حرجاً وانكشافاً أمام شعوبها، فخذلانها الفلسطينيين وتخاذلها مع تلّ أبيب وراعيتها واشنطن، يتطلّب جهداً كبيراً لتبريره وتجاوزه، إن كان سيحدث. ورغم أن معظم الدول العربية تركّز فقط حالياً في دخول دونالد ترامب البيت الأبيض للمرة الثانية وما سيفعله، إلا أن تبعات الموقف العربي من حرب غزّة، ستظهر بعد فترة قصيرة، وسيجد العرب أنفسهم مجبرين على التعاطي معها، ومحاولة تطويقها، والحدّ من سلبياتها، غالباً من دون جدوى.
في المدى القصير، يحفل اليوم التالي في غزّة بجدول مزدحم سياسياً واقتصادياً وأمنياً، بينما على المديَين المتوسّط والبعيد، فإن مستقبل القضية الفلسطينية هو الهاجس الأكبر والمسألة الأكثر تعقيداً الجديرة بالاهتمام والتفكر مليّاً، فإعادة الإعمار ستخضع لحسابات المكسب والخسارة، وسترتبط جزئياً بما ستؤول إليه ترتيبات الحكم في قطاع غزّة، وكذلك الأمر بالنسبة لمستقبل حركة حماس، ومصير قياداتها، ومكانة الحركة لدى الشعب الفلسطيني داخل القطاع، وفي مجمل الأراضي المحتلّة، بعد الثمن الباهظ الذي تكبّده المدنيون الفلسطينيون في القطاع، في أرواحهم وممتلكاتهم وأمنهم.
وفي مسارٍ موازٍ، تتداخل تطلّعات وحسابات الدول العربية بشأن دور عربي محتمل في مستقبل القطاع، الأمر الذي يعني أن ملامح مصفوفة الرابحين والخاسرين في مرحلة ما بعد الحرب وتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، مرهونة أيضاً بالترتيبات الكلّية للقضية الفلسطينية.
وأخيراً، لا يعني الارتهان إلى مآلات القضية فقط التأثر بها موضوعياً، وإنما يعني قبل ذلك التأثّر المباشر والعاجل بالمواقف المتقاطعة بين الدول والقوى المعنية والمنخرطة في صيرورة القضية بدرجات متفاوتة، خاصّة أن هجمة 7 أكتوبر (2023) وحرب غزّة كانتا حدثين جللين وغير مسبوقين، بما جعل الأطراف كلّها تعتبرهما نقطة فاصلة تمهّد لمرحلة جديدة طويلة ونهائية، والمعضلة الحقيقية أن إسرائيل تريدها مرحلة تصفية، وتراها حركة حماس مرحلة إحياء للقضية وإيقاظ للضمير العالمي، وبينهما تسعى الدول العربية إلى جعلها مرحلة تسوية نهائية، والمفارقة أن تقاطع تلك الإرادات من دون مطابقتها لقدرات وقوة كلّ طرف، يعني مستقبلاً غامضاً ومفتوحاً على الاحتمالات كلّها.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.