غطّت فلسطين فغطّتها فلسطين

غطّت فلسطين فغطّتها فلسطين

15 مايو 2022

حشود فلسطينية تحمل نعش شيرين أبو عاقلة في القدس (13/5/2022/Getty)

+ الخط -

مرّة أولى فقط، تمنّينا لو كانت شيرين أبو عاقلة نبأً آجلاً غير عاجل، غير أن الرصاصة الخائفة أدركتها على عتبات جنين، وتركت للرسالة الإخبارية أن تتولّى المهمّة وحدها، لتروي الخبر ناقصاً بانتظار من يكمله.
في فلسطين فقط، تتحوّل المراثي إلى مدائح، والبكاء إلى زغاريد، ويعلو نشيد العصافير على دويّ الرصاص، وينسخ المبتدأ الخبر، حيث الأرض هي المبتدأ والمنتهى. غير أن شيرين ودّت لو كانت صاحبة الخبر الفلسطيني الأخير، وهي تغادر الأردن بعد إتمام دراستها في جامعة اليرموك؛ وتقرّر أن تكون على خطّ التماسّ الأول في وطنها الذي دعاها فلبّت، كانت تطمح إلى أن تقف أمام الكاميرا يوماً لتعلن رحيل آخر جنديّ محتلّ عن أرض فلسطين، وتختم النبأ بجملتها الرصينة التي اعتادها المشاهد: "شيرين أبو عاقلة.. الجزيرة". ولربما كانت هذه الأمنية مشتركة لدى معظم الصحافيين الفلسطينيين العاملين في الميدان.
كل منهم كان يمنّي النفس، وهو يحمل قلمه أو عدسته، أن يكون الصحافي الأول للنبأ الأخير؛ لأنهم يدركون جيداً أن الخبر الفلسطيني، كالجغرافيا الفلسطينية نفسها، لا يقبل التقسيم: "فلسطين احتلت"، و"فلسطين تحرّرت"، وما بينهما فائض أنباء لا يدخل متن نشرات الأخبار الرئيسية إلا عناوين هامشية، لا تشدّ أحداً غير أنصاف المشاهدين.
صحيحٌ أن الحشو بين الخبرين كان غزيراً، ولا سيما في الآونة الأخيرة، عندما جرى حشو السلطة الفلسطينية واتفاقيات أوسلو في المتن، في محاولةٍ بائسةٍ لجعلهما نبأً رئيسيّاً، غير أن "النبأ العظيم" كان أكبر منهما بكثير، لأن الذي يرضى بالفتات لن يغادر الجحور أبداً.
وتسللت إلى الحشو، أيضاً، فئران التطبيع التي استثمرت انحسار الأحلام العربية، وغادرت جحورها لتضع نفسها في خدمة البسطار الصهيوني، باذلةً فروض الولاء والطاعة، وخزائن أموالها لتعزيز الاحتلال وتكريس الكيان الغاصب، خصوصاً في أحلك أوقات هذا الكيان الذي بدأ يواجه نبذاً عالميّاً لم يألفه من قبل، فهبّت أنظمة التطبيع لنشله من مأزقه، وإظهاره كياناً مقبولاً ومهضوماً في محيطه، وربما "حليفاً" أيضاً عمّا قريب، لتقطع هذه الأنظمة الطريق على أي محاولةٍ لعزل إسرائيل عن حيّزها الدولي الذي كانت تفخر بأنه مجالها الحيوي الذي يتيح لها الحياة. ولربما كانت هذه "النخوة" ردّ جميلٍ لإسرائيل التي كانت في ما مضى ذريعة لتفرّد هذه الأنظمة بعروش السلطة وقمع شعوبها.
أدركت شيرين هذا الأمر وغيره مبكّراً، فاختارت أن تغادر "الحشو" باتجاه المتن، فتكون تغطياتها في الجبهات الأشدّ سخونة؛ بعيداً عن صالونات ساسة أوسلو التي تحوّلت فيها "الأنباء" إلى نمائم ووشايات وخيانات؛ فقد عرفت، بحسّها المقدسيّ المفرط، أن النبأ الذي تبحث عنه لا يمكن أن "تحرّره" الأيادي المأجورة من مقاولي "الباطن"، الذين كفوا المحتلّ عناء البطش والتنكيل بالشعب الفلسطيني.
كانت شيرين تدرك أن "التحرير" الصحافي الحقيقي يحتاج، هو الآخر، إلى أناسٍ أحرار، يؤمنون بأن الكلمة في موقعها رصاصة، وخيرها ما قيل في سلاطين الجور وأمراء التطبيع، وأن الكاميرات لا تقدّم عيونها إلا لمن يؤمن بالمقاومة، وطرد المحتل من المبتدأ والخبر، ومن نشرات الأخبار كلها، ومن فلسطين.. كل فلسطين.
كانت تغطّي فلسطين بأهدابها قبل أن تغطّيها بخبر صحافي، وتحنو عليها كابنة بارّة، تتفقد مدنها ومخيماتها وأحياءها قبل النوم، وتستيقظ باكراً لتحضّر لها الإفطار، وتلبسها أزهى الثياب استعداداً لمواجهةٍ جديدةٍ على خطوط التماس، من حيّ الشيخ جرّاح إلى جنين. كانت تذهب من فلسطين إلى فلسطين، بحثاً عن السبق الصحافي الذي لم تحرزه بعد، لكنها كانت مؤمنةً بإذاعته يوماً.. لا من خلف الشاشات، بل من مآذن المساجد وأجراس الكنائس، غير أن فلسطين أشفقت عليها هذه المرّة، فآلت أن تمنحها قسطاً من الراحة "غير الأبدية" بالتأكيد، لأن ثمّة خبراً جديداً ينتظر.
تبدّلت الأدوار هذه المرّة.. كانت شيرين أبو عاقلة تغطّي فلسطين، فغطّتها فلسطين.. لكن التغطية "غير مستمرّة".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.