غزّة يا قداسة البابا
اثنان من أرفع الشخصيات في العالم حافظا على موقفهما الأخلاقي المتماسك، غير القابل للتراجع، إزاء المذبحة التي يتعرّض لها الغزّيون منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023: قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وكل منهما يحوز مكانةً أخلاقيةً استثنائية لا يحوزها سياسي أو جنرال في العالم مهما كان نفوذه وقوته.
وصل غويتريس في مارس/ آذار 2024 إلى معبر رفح الذي كانت قوافل المساعدات الإنسانية تمنع من دخوله. كان صائماً على سبيل التضامن مع الفلسطينيين على الضفة الأخرى من رفح، حيث يُقصفون ويُقتلون بالعشرات يومياً، وحيث بيوتهم تُمسَح بالأرض، وحيث أحفاد يوشع بن نون لا يكتفون بما سفكوه من دم أُريق في شوارع غزة وأزقتها ومدنها. لم تسمح إسرائيل له بالدخول إلى غزّة، لكنه من هناك ألقى خطابه الذي لا يُنسى، قدّم مرافعته الحزينة والمُؤسية عن الغزّيين الذين لا يبعدون عنه سوى أمتار قليلة، فلا يستطيع وسواه دفع الأذى عنهم.
إنهم هناك سجناء الكابوس، والموت يتجوّل، مجتمعات كاملة تُطمس، ومنازل تُهدّم، وأجيال كاملة من الأطفال يجري محوُها، والمجاعة تطارد المدنيين هناك. ... إنه مأزق الإنسانية بأسرها التي لا تستطيع وقف هذه المأساة التي تُبثّ على الهواء مباشرة، وهذا ما استوقف الرجل طويلاً ودفعه إلى التمسّك أكثر بموقفه الأخلاقي غير القابل للمساومة أو التراجع، مؤكّداً من هناك، من معبر رفح الذي يديره شقيق الغزّيين فلا يفتحه، بأنه لن يستسلم أبداً، فعلى الإنسانية نفسها ألا تستسلم كما قال، حتى تنتهي مأساة ذلك الشعب الذبيح.
سرعان ما اتهمته إسرائيل بمعاداة السامية، وأن الأمم المتحدة بقيادته أصبحت لاسامية ومعادية لإسرائيل، بل وتؤوي الإرهابيين، وتلك تهم أصبحت مصدراً للسخرية حين يقولها جزّارون وقتلة، من أمثال نتنياهو ويوآف غالانت، فمن يعيش على الضفة الأخرى للصراع ساميّون منذ وجدوا على هذه الأرض قبل آلاف السنين، فكيف تأتّى لمن يقتلهم أن يحتكر بأثر رجعي لا مفهوم الضحية وحسب، بل والرواية أيضاً، فيحذف ما شاء ويضيف ما شاء، متوهماً أنه يحكم العالم، ويوجّهه بل ويملي عليه ما يفعل وما لا يفعل.
كان قداسة البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهو شخصية نادرة في نزاهتها الأخلاقية ومتخفّفة من كل زينة أو بهرج سلطة، يعرف أن ثمة نداءً سماوياً واتصالاً إلهياً قد حدث هناك حيث وقف غوتيريس وشعر بالعجز، في الأرض المقدّسة، وأن ثمّة من يعمل على اختطافه، وأن على الصوت الذي في البرّية أن يرتفع الآن، ويقول كفى، وهو ما فعله قداسة الحبر الأعظم، فلم يكفّ منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 عن التنديد، وهو قليلاً ما يفعل، بحكم طبيعة موقعه الروحي، ولم يكن تنديده إلماحاً، بل جهراً بأن هناك مذبحة لا تتوقف، وشعباً يُذبح، وهذا من أعمال الإبادة، فظيع ولاإنساني. وفي تصريح له، أخيراً، عبّر قداسته عن حزنه الشخصي مما يحدث، فعلينا "ألا نقبل أن يتجمّد الأطفال في غزة حتى الموت بسبب تدمير (إسرائيل) المستشفيات وشبكات الطاقة، علينا ألا نقبل أبداً".
لم يزر قداسته قطاع غزّة، وندعوه ليفعل، فبما يتمتّع به من مكانة رفيعة، وما يمثله من قيمة روحية وأخلاقية، معطوفاً على نزاهته الفردية وتقشّفه المدهش، وتوجّه الأنظار إليه أينما حلّ وبأي كلام نطق، فإن من شأن زيارته لغزّة أن تحسم صراعاً مسكوتاً عنه حول مفهوم الضحية والذبيحة، وحدود القوة التي تتوحش وتنطق باسم الربّ نفسه، وهو ما يجب وضع حد له.
في غزّة، مرّت العائلة المقدّسة وهي تفر من رجالات هيرودس الذي أمر بقتل كل طفلٍ في حدود مملكته، وكان السيد المسيح تقدّس اسمُه وذكره، ومريم البتول، خائفيْن في رحلة هروبهما من بيت لحم إلى مصر القديمة. لقد توقفا هنا، يا قداسة البابا، في غزّة، وأقاما تحت سمائها التي تلوّنت بالدم بعد 21 قرناً، وهو دم سكّانها الذين تُركوا وخُذلوا وهم يُجرّوْن إلى المقصلة، وهم يُذبحون ليل نهار، ويُبادون ويُهجّرون، ويكون صيف ويكون شتاء بينما هم يُقطّعون حرفياً فلا يُدفنون بأجسام سليمة.
وفي غزّة كنائس وجوامع وعبّاد وعابدون ينتظرون زيارتك، يا قداسة البابا، ومن أجل الطفل - الرسول نرجو أن تفعل.