غزّة ومعركةُ الذاكرة
(نبيل عناني)
كانت الذاكرة، ولا تزال، الواجهة التي استثمرت فيها دولة الاحتلال موارد هائلة من أجل تكريس روايتها بشأن الصراع، فأسّست هيئاتٍ ومراكزَ ذاكرةٍ وبحثٍ ومتاحفَ، وأقامت نُصبا تذكاريةً تخليدا لذكرى ضحايا المحرقة اليهودية. ولعبت الدول واللوبيات وجماعات المصالح المؤيدة لها في الغرب أدوارا كبيرة في إقرار تدابير، مثل اعتماد الأمم المتحدة اليوم العالمي لإحياء المحرقة اليهودية الذي يصادف 17 يناير/ كانون الثاني من كل سنة، وتبني دول أوروبية تشريعات تُجرم إنكار هذه المحرقة.
تبدو الاستفادة من ''خبرة'' العدو، هنا، بالغة الأهمية في إعادة بناء الوعي الجمعي الفلسطيني بالجذور التاريخية والثقافية للصراع ومساراته التي أوصلت دولة الاحتلال إلى ارتكاب واحدةٍ من أكثر حروب الإبادة وحشية في التاريخ المعاصر، فقد أعادت محرقة غزّة (نعم محرقة!) إلى الواجهة صراع السرديات بشأن ما حدث خلال النكبة (1948). وإذا كانت دولة الاحتلال قد استغلّت غياب المتابعة الإعلامية والقانونية لما جرى قبل 77 عاماً، فالأمر يبدو مختلفا تماماً في 2024.
يستدعي الدمار الهائل الذي أحدثه الاحتلال في قطاع غزّة معركةَ ذاكرة على الفلسطينيين، في الداخل والشتات، الانخراط فيها، لا سيما أن الرأي العام في الغرب أضحى مُهيأً، أكثر من أي وقتٍ مضى، لمراجعة رؤيته ومواقفه بشأن الصراع، بعد أن شاهد على الهواء مباشرة جرائم الاحتلال وفظاعاته في غزّة، وتبيّن له حجم الظلم الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني بتواطؤ غربي صارخ.
معركة الذاكرة هاته تستوجب البحث والتقصّي من أجل حصر قائمة الشهداء وأسمائهم وأعمارهم وأُسرهم وتاريخ استشهادهم، بما يحفظ الذاكرة الفلسطينية ويُبقيها حيّة، في مواجهة مخطّط المصادَرة وكسرِ الإفلات من العقاب الذي يشجّع دولة الاحتلال على مواصلة جرائمها. وتمثل معركة الصورة، هنا، مورداً رئيساً في فضح عنصرية هذه الدولة وفاشيتها؛ فقد وثّقت مئات الفيديوهات المجازر الوحشية التي ارتكبها الطيران الحربي الإسرائيلي في غاراته على المدنيين العزّل، وحجمَ الدمار الذي أصاب العمران الحضري في القطاع بسبب تعمّد الاحتلال استهداف البنى التحتية والمنشآت والمرافق الحكومية والمدنية. ينبغي حفظ هذه الفيديوهات وتخزينها في أرشيفٍ رقمي، كي يصبح جزءاً من الأرشيف الوطني الفلسطيني، الذي يُفترض أنه يوثّق، إضافة إلى تاريخ فلسطين، التراجيديا الفلسطينيةَ بفصولها المعلومة.
في السياق ذاته، تفتح محرقة غزّة أفقاً جديداً أمام الفيلم الوثائقي الفلسطيني، من خلال إعادة تركيب المأساة الفلسطينية، في ضوء ما خلفته هذه المحرقة من تداعياتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ ونفسية وثقافية على سكان القطاع، وبالتالي، تقديم سردية فلسطينية ''مُنقّحة'' قابلة للحياة في مواجهة مخطّطات الاجتثاث والتصفية والإبادة، بالحرص على ترجمتها إلى أكبر عدد ممكن من اللغات، وتسويقها وفق استراتيجياتٍ مُحْكمة، تَستثمر ما تُتيحه "السوشيال ميديا" من إمكاناتٍ بهذا الخصوص.
الاستفادة من ''الخبرة الإسرائيلية'' يجب أن تمتدّ أيضاً إلى إدراج ''محرقة غزّة'' في المنهاج الدراسي الفلسطيني احتراما لضحاياها وتكريما لهم. قد يبدو ذلك سابقاً لأوانه، الآن، بسبب ظروف الاحتلال في عموم الأراضي الفلسطينية، إلا أنه يُفترض أن يكون ضمن أولويات معركة الذاكرة في المستقبل.
من الناحية القانونية، فتحت دعوى الإبادة، التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، دروباً جديدة أمام الفلسطينيين للترافع ضدّها أمام القضاء الدولي. على أن ذلك ينبغي أن يتوازى مع توثيقٍ وجردٍ دقيقيْن للجرائم التي ارتكبتها في قطاع غزّة، واستدعاءٍ محكمٍ لمقتضيات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان ذات الصلة بهذه الجرائم.
هناك عملٌ كثيرٌ ينتظر الفلسطينيين في بناء ذاكرة ''محرقة غزّة"، فالأمر يتعلق بأول حرب إبادة جماعية في التاريخ تُنقل على الهواء مباشرة وبمباركةِ دولٍ وحكوماتٍ وهيئاتٍ دولية وإقليمية. وإذا كان واقع الحال لا يسمح بالانخراط الشامل في هذه المعركة حاليا، فعلى الأقل، يجب القيام بمبادراتٍ عاجلة، أقلها جمع مادة هذه الذاكرة من فيديوهات وصور ووثائق وغيرها توثق المحرقة. ولا شك أن ما تقدّمه تكنولوجيا الاتصال من إمكانات كفيلٌ بفتح هوامش واسعة أمام الفلسطينيين لتقديم سرديّتهم بشكل مغاير.