غزّة والصين والصمت في زمن ترامب

20 مارس 2025
+ الخط -

عادت إسرائيل إلى حربها التدميرية على قطاع غزّة، بعد نحو شهرين من الوقف المؤقّت لإطلاق النار، ورجعت الصين إلى استعمال لغة فضفاضة تجاه الحرب تركّز في الجوانب الإنسانية، وتدعو "الأطراف كافّة" إلى منع التصعيد، والحيلولة دون وقوع كارثة. وإذا كانت الصين قد فعلت مثل هذا في زمن جو بايدن، وتجنّبت الخوض في عمق قضية الحرب على غزّة أو الانخراط في تداعياتها، فإنه يبدو، من باب أولى، بالنسبة إليها أن تفعل مثله في عهد ترامب، الذي لم يضغط على بكّين في الملفّات السياسية والعسكرية بعد، على عكس ما فعل سلفه الذي أقام تحالفاً عسكرياً حول الصين، وأعاد فتح ملفّات مجمّدة مثل قضيتَي تايوان وبحر الصين الجنوبي.

بل إنه يجدر ملاحظة الصمت الذي لاذت به بكّين تجاه الولايات المتحدة منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، حتى أن الاجتماع السياسي الأكثر أهمية في الصين، متمثّلاً في ما تسمّيان "الدورتَين السنويتَين" للبرلمان الصيني الذي انعقد مطلع مارس/ آذار الجاري (2025)، تغافل عن ذكر الولايات المتحدة أو التلميح بشأنها في بياناته وقراراته على غير عادة الاجتماعات المماثلة خلال السنوات الماضية، التي شهدت توتّراتٍ كُبرى بين الدولتَين. الصين إذاً تختار الصمت تجاه إدارة ترامب، وإن اضطرّت للحديث فبالحدّ الأدنى، ومن دون أن تقول كلاماً يُغضب ذاك الساكن في البيت الأبيض، بدليل أن المتحدّثة باسم وزارة الخارجية الصينية، التي علّقت على عودة العدوان الإسرائيلي على غزّة، تجنّبت إدانة الحرب أو استعادة الحديث عن الاحتلال الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني، وكأنما تقف بكّين على الحياد، وهذا ليس موقفها التاريخي. كذلك لجأ مندوب الصين لدى مجلس الأمن إلى التعبير عن "قلق بالغ" إزاء الهجمات الجديدة، و"الأسف للأضرار التي لحقت بوقف إطلاق النار"، مع حثّ إسرائيل على وقف العمليات العسكرية فوراً.

صحيحٌ أن هذه التعليقات الصينية الفضفاضة بشأن استئناف الحرب جاءت بعد أسابيع من تصريح وزير الخارجية، وانغ يي، إن "قطاع غزّة ملك للفلسطينيين"، على ما بدا أنه رفض صريح لخطّة ترامب في تفريغ القطاع من مواطنيه، لكن ذلك التصريح المميّز لم يندرج في إطار تحرّك صيني يعبّر عن سياسة واضحة لمجابهة ترامب وخططه في العالم، على ما هو متصوّر من دولة ساعيةٍ إلى مقارعة القطب العالمي الأوحد، وتبديل النظام العالمي إلى متعدّد الأقطاب يكون لها فيه كلمة مسموعة... وهكذا، يؤكّد ملف غزّة مُجدّداً أن الصين تتجنّب إثارة غضب ترامب. فهل الصين خائفة أم ماذا؟

 تدرك الصين أن من غير مصلحتها خوض غمار تحدٍّ سياسيٍّ مباشرٍ مع رجل مثل ترامب

الصحيح أن الصين فضّلت عودة ترامب إلى البيت الأبيض على استمرار جو بايدن أو نائبته كامالا هاريس، لأنها أدركت أنه أقلّ خطراً من النواحي السياسية والعسكرية، أمّا الاقتصادية فيمكن التوصّل من خلالها إلى تفاهمات. وهذا معناه أن الصين ليست خائفةً من ترامب، وإنما تلتزم الصمت أو تفضّله لأحد سببين. أولهما أنها تجد ترامب يعمل ضدّ مصلحة بلاده على المستوى الاستراتيجي، فهو يأخذها نحو الانكفاء على نفسها وإغضاب حلفائها كما يفعل مع كندا وأوروبا، وهذا (من وجهة نظر الصين) سيؤثّر سلباً على النظام العالمي أحادي القطبية، الذي تستهدفه عبر سياسة مدّ نفوذها الدولي منذ إطلاقها مبادرة الطريق والحزام مع وصول الرئيس الحالي شي جين بينغ إلى السلطة عام 2013. فإذا كانت سياسة ترامب تخدم أهداف الصين على المدى البعيد، وتضرّ مصالح واشنطن، فمن المنطقي السكوت عنها، حتى لا تتعطّل.

السبب الثاني أن بكّين لا تريد إثارة غضب ترامب تجاهها بطريقة تدفعه إلى الالتفات إليها الآن، والانطلاق في إجراءات اقتصادية أكثر قسوة ممّا يفعل حالياً، في وقتٍ ما زالت الصين تتعافى من نتائج جائحة كوفيد - 19 على اقتصادها. بكلمات أخرى، بكّين راضية بانشغال ترامب بملفّات سياسية أخرى بعيداً منها، وتريده أن يبقى في مشاغله تلك، في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية ودول جواره، كندا والمكسيك، بل تريد أن تشجّعه على تناسيه ملفّ تايوان، وإهماله، والنظر إليه من زاوية تكاليفه المالية الباهظة على واشنطن، مكتفياً بالتعامل معها من الزاوية الاقتصادية. ليس من مصلحة الصين أن تثير ردّات فعلٍ غير عقلانية من ترامب هو بالطبع أهلٌ لها، لذا تحاول ما استطاعت أن تتجنّبه وتصمت عنه.

اعتادت الصين أن تعمل بصمت، وأن تتخذ سلوكاً مغرقاً في البرغماتية

لكن، هل هذا مقبول من دولة كبرى مثل الصين، تتحدّث عن تغيير النظام العالمي والتحوّل دولةً صاحبةَ أكبر اقتصاد في العالم خلال السنوات المقبلة؟... بالنسبة لنا نحن العرب، يبدو الأمر غير مقبول، لكنّه بالنسبة للسلوك السياسي الصيني، المتّبع منذ إطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، يبدو متوقّعاً، لأن الصين اعتادت أن تعمل بصمت، وأن تُبدي نيّاتٍ حسنة باستمرار، وأن تتخذ سلوكاً مغرقاً في البرغماتية مفضّلة مصالحها التنموية على مكانتها الدولية.

ليس غريباً إذاً أن ينعقد اجتماع "المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني" و"المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني"، وهما أعلى اجتماعين سياسيين يقرّران سياسات البلاد للسنة المقبلة، بحضور الرئيس، ثمّ لا يكون فيهما إشارة إلى التهديدات الأميركية التي ما فتئت تتعرّض لها البلاد، على عكس ما ظلّ يجري منذ وصول شي إلى السلطة، وكأنما لا انعكاس لتلك التحدّيات في خطط البلاد وبرامجها. ليس غريباً لأن الصين تدرك أن من غير مصلحتها خوض غمار تحدٍّ سياسيٍّ مباشرٍ مع رجل مثل ترامب، مثلما كانت تدرك أن من غير مصلحتها إشعال التوتّرات مع جو بايدن خلال السنوات الفائتة، لولا أن هذا الأخير هو الذي اختار التوتّر حين جعل مواجهة الصين شغله الشاغل في سنوات حكمه الأولى، متّبعاً ما كان يسمّيه "الردع المتكامل" تجاهها. إذا كانت بكّين اتّبعت الصمت تجاه سياسات واشنطن في أعلى اجتماعاتها السياسية، فليس مفاجئاً أن تتبعه حيال الحرب على غزّة.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.