غزّة المقاومة .. والسلطة المفاوضة

غزّة المقاومة .. والسلطة المفاوضة

26 مايو 2021
+ الخط -

يعيش الشعب العربي الفلسطيني في قلق، سواء كان في أرضه، أو مقيما عاملا كادحا في الأقطار العربية، أو في مخيمات اللجوء في بعض أقطار الوطن العربي، ويشعر بالقهر والملاحقة، أو مغتربا بعيدا عن الأهل والوطن في قارّات العالم. الفلسطيني هو من أكثر العرب علما وثقافة وإنتاجا وانتماء لأمته، وتفانيا في عمله ومهنته. وأستدرك وأقول إن الفلسطينيين ليسوا من الملائكة، فمنهم العميل والخائن لأمته ووطنه وأمانته، إلا أن الصفات الحسنة والسمو عندهم، وتاجها حب الوطن، تفوق السلبيات فيهم. يعرفون حدودهم في الغربة والابتعاد عن الوطن. ولذلك يقدّمون تنازلاتٍ عن كثير من حقوقهم، حتى لا يغضب أحدٌ عليهم، لأنهم بلا حكومة تحميهم من اضطهاد الآخرين لهم.
(2)
لم يمنّ القدر على هذا الشعب العظيم بسلطة وطنية تعينه، وتعمل على استرداد وطنه السليب فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، بل جار عليه الزمن، بحفنة من الانتهازيين أصحاب المصالح الخاصة، تتاجر باسمه، وتجمع المال من الدول والمؤسسات الدولية المانحة لتتقاسمه، كل بقيمته ودوره. لقد استبشر الشعب الفلسطيني بمولد منظمة التحرير في ستينيات القرن الماضي، وبمولد حركة المقاومة (العاصفة)، ثم جاء جيلٌ مزّق ذلك الإنجاز العظيم، وولد فريق آباء غير مخصبين وغير فاعلين، إلا لتحقيق مصالحهم الذاتية.

لم يمنّ القدر على الشعب الفلسطيني العظيم بسلطة وطنية تعينه، وتعمل على استرداد وطنه السليب

ومرة أخرى أستدرك وأقول إن هناك آباء شرفاء عظماء، قدموا لوطنهم وأمتهم الكثير في ميدان النضال والشرف والأمانة، بعضهم ما برح حيا مناضلا، وآخرون لاقوا ربهم من دون أن يتركوا لأسرهم شيئا إلا السمعة الوطنية الحسنة.
(3)
تلاحق سهام السلطة العباسية في رام الله المواطن الفلسطيني، ليدفع الضرائب المتعدّدة. وتلاحقة إذا قاوم جنود الاحتلال، بل إنها أجازت للجيش الإسرائيلي ملاحقة الذين يعارضون اتفاق أوسلو والاتفاقيات المذلة التي نتجت منه. وتجري الملاحقات الإسرائيلية المسلحة في الضفة الغربية تحت سمع قوات الأمن الوقائي الفلسطيني وبصرها، وحتى حمايتها. بعد أن وضعت حرب الـ11 يوما أوزارها في غزة وعموم فلسطين، فجر الجمعة 21 مايو/ أيار الحالي، اعتقلت قوات إسرائيلية في الضفة الغربية، حيث سلطة محمود عبّاس وقواته الأمنية، قيادات وكوادر من حركة حماس، وأسرى محرّرين وشبانا آخرين، وداهمت منازل في الضفة، ما نتج عنه اعتقال 40 مواطنا فلسطينيا. كما اعتقلت السلطات الإسرائيلية أكثر من 15 مرشّحا للانتخابات الفلسطينية التي ألغاها محمود عبّاس، وشابا من قرية شقبا، غرب رام الله، واعتقلت في نابلس أربعة مواطنين، اثنان منهم أسيران محرّران. وفي محافظة الخليل، اعتقلت تسعة مواطنين، بينهم شقيقان. ما هي مهمة سلطة محمود عباس في الضفة الغربية، إذا كانت لا تستطيع حماية المواطنين الذين تحت سلطتها، ويدفعون لها الضرائب؟ ما فائدة هذه السلطة التي لا تستطيع تحقيق الأمن والاستقرار في أراضي سلطتها من ممارسات الجيش والأمن الإسرائيليين؟ نتيجة لذلك، على هذه السلطة أن ترحل، وتسحب معها عملاءها المجنّدين لخدمة قوات الاحتلال. "حلّوا عن الشعب الفلسطيني" ليتدبّر أمره، ويلتحق بالقادرين على حمايته من قطعان المستوطنات وجنودهم، إن إخوانهم أهل غزة العزة هم القادرون على الدفاع عنهم.

أصبح عباس معزولا في الداخل والخارج، وأصبحت سلطته، بكل أركانها وقواعدها، من الماضي

(4)
لطالما قال السيد محمود عباس عن صواريخ المقاومة في غزّة إنها عبثية، وغير مجدية. ماذا عساه أن يقول عنها اليوم، وقد جعلت الكيان الصهيوني يخسر 2.1 مليار دولار في 11 يوما، بحسب اتحاد الصناعات الإسرائيلية، فقد عطلت فيه كل عوامل الإنتاج، وأدخلت سكانه الملاجئ. ووصلت ضرباتها إلى مطارات إسرائيل، العسكرية والمدنية. وقال قادة الكيان إن صواريخ غزّة أربكتهم. والحق إن من بين أهم نتائج هذه المعركة أنها أوقعت الشقاق في القيادة الإسرائيلية، وخصوصا بين القيادتين العسكرية والسياسية، وهذا يحسب للمقاومة الباسلة في غزّة.
ويقينا، أصبح الرئيس محمود عباس معزولا في الداخل والخارج، وأصبحت سلطته، بكل أركانها وقواعدها، من الماضي. الاتصالات الدولية، والأميركية خصوصا، كانت تجري مع الدوحة والقاهرة وتونس، وليس مع رام الله صانعة اتفاق أوسلو. بقي عباس، طوال أيام الحرب، يترقب رنين التلفون، لعل أحدا من قادة العالم يتصل به في أتون المعركة. فرح باتصال هاتفي من الرئيس الأميركي بايدن. وفرح عندما طلب بايدن، في مؤتمره الصحافي مع الرئيس الكوري، "الاعتراف بمحمود عباس قائدا للشعب الفلسطيني". وليعلم عباس، وغيره من القادة العرب، أن الاعتراف بالزعامة والقيادة يأتي من الشعب، لا من قوى خارجية.

اتّحدت فلسطين روحا ومقاومة وعقيدة من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة شمالا إلى أم الرشراش جنوبا، بفعل المقاومة الباسلة

لقد راح محمود عبّاس، مع رهطه، يحاول استعادة سلطته إلى ما كانت علية قبل حرب غزة الرابعة، لكن القطار فاته، ولم يعد له مكانة يعتدّ بها. اتّحدت فلسطين روحا ومقاومة وعقيدة من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة شمالا إلى أم الرشراش جنوبا، بفعل المقاومة الباسلة بقيادة الشرفاء المناضلين حقا في قطاع غزة. ويطلب عبّاس من المانحين لإعادة إعمارغزة أن تكون المنح عن طريق سلطته المنهارة في رام الله، وبأن تكون جميع المفاوضات بشأن تثبيت وقف إطلاق النار بين المقاومة وإسرائيل عبر مؤسساته.
(5)
يا للهول! الدمار حصل في غزّة، وهناك إعادة الإعمار وتضميد الجراح، والسلطة العباسية لا سلطان لها على غزّة منذ 2005، فكيف توكل إلى سلطته إعادة إعمار غزّة. وينبه الكاتب هنا إلى خطورة إجراء أي تفاوض بين سلطة رام الله والدول المانحة بشأن إعادة إعمار غزّة، فتجربة التفاوض التي أوصلت إلى "أوسلو"، مثالا، قادت القضية الفلسطينية إلى كارثة، ليس من السهل تجنّب نتائجها. يجب أن يكون التفاوض مع من حمل السلاح، واستطاع توحيد الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال في جبهة واحدة، كما أن فعل المقاومة استطاع تعبئة شعوب العالم للخروج في مظاهرات ومسيرات حاشدة، في عواصم ومدن كبرى في العالم، تنديدا بدولة التمييز العنصري الاستيطاني إسرائيل.
آخر القول: بصوت عال، محمود عبّاس ارحل، لم يعد لك مكان بيننا، فأنت تمثل الهزيمة والانكسار.

EC78868B-7E9C-4679-9EB1-42A585C1A75D
محمد صالح المسفر

كاتب وباحث من قطر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قطر، له عدة بحوث ومقالات وكتب.