غزّة أو عودٌ على بدء
لا بأس من تكرار قولٍ قاطع، للمرّة الألف على الأقل، إن نتنياهو لن يلتزم بوقف حرب الإبادة على أهل قطاع غزّة، فهذا من المستحيلات المؤكّدة. قد يمرّر هدناتٍ طويلةً أو قصيرةً مع تبادل محتجزين إسرائيليين وأسرى فلسطينيين، وقد يفعلها ويعلن، في لحظةٍ ما، بعيدةٍ على الأرجح، "نصراً مطلقاً"، فيوقِف الحرب، مع تذييلٍ بتأكيده استئنافها عند حاجة إسرائيل إليها. ولكن هذا مرهونٌ بحساباته، لا بمنطق مفاوضاتٍ يستجيب فيها لمطلبٍ تطرحه حركة حماس التي يُستغرب منها إلحاحُها على هذا "الشرط"، في مداولات الوصول إلى اتفاقٍ بشأن المحتجزين وأعداد المنوي الإفراج عنهم في دفعاتٍ أو مرّة واحدة، وهي التي لا تنفكّ تسترسل، مُحقّةً، عن مراوغات نتنياهو وتنصّله المعتاد من الاتفاقات. كيف، إذن، تشدّد على مطلب التزام هذا الفاشي بوقفٍ للحرب فيما هو لو فعل هذا (ومؤكّدٌ أنه لن يفعل) لا شيء سيردعه عن نقضه وقت شاء، والخبرة المديدة والمريرة معه لا تُنبئ بغير هذا واحداً من مسلكياته، والتي لا يشذّ فيها عن أقرانٍ له في رؤوس السلطة والمعارضة في دولة الاحتلال.
هل نقول إن هذه "عقدة" عويصةٌ في جولات التفاوض الشاقّة التي تخوضها المقاومة الفلسطينية مع طواقم نتنياهو؟ أم إن ثمّة عُقداً أخرى، عويصةً أيضاً، تجعل عملية التفاوض التي تجري، وبتقطّع، وبإيقاعٍ مُضجر، تحت نيران القتل اليومي الذي تزاوله آلة العدوان في أهل غزّة، في مخيّماتهم ومستشفياتهم ومدارسهم وما تبقّى من بيوتهم؟. ينضافُ إلى السؤاليْن ثالثٌ يتعلق بالسبب الذي يجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يريد أن يقتنع بأنه لن يحرّر أي محتجزٍ حيّاً إلا بالتفاوض، وقد جرّب كثافة نيرانٍ هائلةٍ في اعتداءاتٍ ليليةٍ ويوميةٍ في كل القطاع توسّل فيها ضغطاً على المجاهدين المحاربين المرابطين في المقاومة، والذين فاجأوا العدو (وغيرَه) في مراسم تسليمهم محتجزين سابقين بانضباطهم وحسن مظهرهم ودقّة عملهم وفرادة أدائهم. جرّب قتلاً بالغ الإجرام، من دون أن يمكّنه من استرداد أيٍّ من أولئك، والذين يبيع عائلاتهم والجمهور الإسرائيلي كلاماً ساكتاً (بتعبير سوداني) عن تصميمِه على إعادة أبنائهم. وهو لا يكذب، وإنما تصميمُه هذا تالٍ على أمور أدعى وأوْلى، يتقدّمها قرار إسرائيلي، لا يخصّ نتنياهو وحده، تهديم كل مظاهر الحياة في غزّة، والإجهاز على روح المقاومة فيها، بالتيئيس الذي يقوم على القتل الأعمى والتجويع ومنع الدواء والإغاثة والإسعاف. وليس من شعبٍ يتعرض لهذا كله، في بقعةٍ ضيقة، سنة ونصف السنة (إلى متى؟) ويبتهج بمقاومةٍ ونضالٍ، سيّما أن الجحيم الإسرائيلي هو المعايََن المشهود، والمقاوِمون الصابرون لا ينتسبون إلى أهل المعجزات والخوارق.
العود على بدءٍ هو ما يحلُّ الإشكال المُتعب في الأسئلة أعلاه، أي العودة إلى البديهيّة التي لا يجوز نسيانُها، أن ثمّة قراراً إسرائيلياً مُشهَراً، استغلال لحظة الانكشاف العربي المريع، غير المسبوق في فداحة عجزه، مع الإسناد الأميركي غير المحدود، والمضيّ إلى الحرب بجرائم لا سقوف لها، ولا يُخشى بصددها من محاكم دوليةٍ وهيئات حقوق إنسانٍ وحراكاتٍ دبلوماسيةٍ ومظاهراتٍ ومسيراتٍ مهولةٍ في كل الأرض. المضيُّ إلى الحرب ضد الوجود الفلسطيني، وإنهاء أي تفكيرٍ بأي أفقٍ سياسيٍّ وأي كلامٍ عن حلول دولتين وغيرها. لقد راع العقل الإسرائيلي ما صار في "7 أكتوبر"، لم يكن متخيّلاً في أتعس الكوابيس. ولذلك سيكون من عاشر المستحيلات التزامٌ من نتنياهو بوقف الحرب في مفاوضات الدوحة والقاهرة، والتي يخوضُ في غضون جولاتها المجرمون الإسرائيليون في الدم الفلسطيني بلا اعتبارٍ لأي اعتبار.
العود على بدءٍ يعني مغادرة الاستغراق في التحليل السياسي عن سيناريوهات اليوم التالي، والبقاء في اليوم الذي نحن فيه، وهذا يومٌ لا صلة له بخوف نتنياهو من محاكماتٍ، أو تحسّبه من سقوط حكومته، وإنما صلته فقط بقرار إسرائيلي عنوانه المضيُّ في أخذ الفلسطينيين إلى كل جبال اليأس وتلاله، بحربٍ على كل وجودٍ لهم، على كل أفقٍ يشتهونه، ثمّة غزّةُ وقتل أهلها وحصارُهم وتعطيشُهم وحرمانُهم من الحياة الطبيعية، وثمّة الضفة الغربية... ووحده العليّ القدير علّام الغيوب.