غزو أوكرانيا قادحاً لثورات ربيع عربي جديدة

غزو أوكرانيا قادحاً لثورات ربيع عربي جديدة

01 ابريل 2022
+ الخط -

قبل غزو روسيا أوكرانيا، وما ترتّب عليه من تبعاتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ وغذائيةٍ مباشرةٍ على الدول العربية، كانت هذه الدول تعاني أزمات اقتصادية واجتماعية أوصلت الشعوب فيها إلى مرحلة من الفقر والقمع وغياب الحلول، إلى درجة أن خروج أي احتجاجات لتغيير هذا الواقع أمر قابل للحدوث في أي لحظة. ولا يعني غياب الحوادث التي يمكن أن تشير إلى إمكانية حدوث احتجاجات أو انتفاضات أنه لا يمكن رؤية الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يبين مدى استمرار الفئات الحاكمة باستغلال الطبقات الشعبية ونهبها وصولاً إلى تفقيرها ودفعها إلى اليأس. ونتيجة أن الطبقات الشعبية قد راكمت من الوعي ومن الشجاعة، بعد أن طردت الخوف الذي استوطن في أنفسها عقوداً، مع اندلاع انتفاضات الربيع العربي الأولى سنة 2011، فإن إحدى تبعات الحرب على أوكرانيا التي سوف تظهر في نقص الموارد الغذائية الذي ستتعرّض له دول عربية، نتيجة سياسات نخبها الحاكمة الخاطئة، ستكون قادحاً لثورات ربيع عربي جديدة، لكنها ستكون هذه المرّة بدافع الجوع الذي يقف على الأبواب.

هل ستكون اضطرابات أم احتجاجات أم ثورات شبيهة بالثورات التي اندلعت سنة 2011، تلك التي ستندلع مع حدوث أزمات غذاء في عدد كبير من الدول العربية؟ سؤال ربما يطرحه صانعو القرار في الدول العربية، والذين يعرفون ما أوصلت سياساتهم الاقتصادية في ضرب الاقتصاد المنتج، الزراعي والصناعي، البلاد إليه، من خلال التشبيك مع السياسات الاقتصادية للدول الرأسمالية الكبرى، والتي فرضت إدماج دول عربية بالسوق العالمية التي أحدثتها، وفرضت عليها التراجع عن سياسات الحمائية والاكتفاء الذاتي مقابل القروض، واعتماد سياسة الاستيراد، ما دامت السلع متوفرة لدى تلك الدول الرأسمالية، ولا شيء يمنع من توريدها. ونتج عن هذه السياسة الاقتصادية الجديدة ظهور الاحتكارات التي حصرت في أياديها عمليات الاستيراد. ولأجل ذلك، ضربت الإنتاج الكبير والمتوسط والصغير، عبر طرح السلع المنافسة، وعبر بعض الإعاقات الإدارية، علاوة على عمليات تخريب البنية التحتية الخاصة بإنتاج الطاقة الكهربائية التي تُعدُّ عصباً لأي إنتاج صناعي، كما رأينا في مصر وسورية والعراق والسودان ولبنان، وغيرها من الدول العربية التي ينعدم فيها استقرار التيار الكهربائي.

ستساعد أزمة الغذاء المتوقعة على تهيئة الظرف الموضوعي يوم تهتز أركان الأنظمة السائدة

وقد كان لهذه السياسات أثر تدميري، من الناحية الاجتماعية، حين حوّلت الطبقة المتوسطة إلى فقيرة فزادت من نسبة الأخيرة وقللت من نسبة الطبقة الغنية. ولأنه عادةً ما يعوَّل على الطبقة المتوسطة للنهوض بالتعليم والثقافة وكذلك بالصناعات التحويلية والصغيرة، والتي تعد حلقة أساسية في سلسلة الإنتاج وفي الدورة الاقتصادية المكتملة، تردَّت الصناعات الصغيرة والمتوسطة في الدول العربية مع ضرب هذه الطبقة، بالتوازي مع ضرب الصناعات المتوسطة والكبيرة التي كانت ملكيتها تعود للدولة. وينطبق هذا الواقع على الإنتاج الزراعي الذي تراجع مع اعتماد سياسة الاستيراد الذي احتكرته النخبة الحاكمة وجيَّرته لعددٍ قليلٍ من المحظيين والوسطاء. وانعكس الاعتماد على الاستيراد زيادة في استنزاف الموارد المالية، وأوصل بعض الدول إلى شفا الإفلاس، ومنها من وصل إلى مرحلة الدولة الفاشلة، بعد أن فقدت الحكومات القرار الداخلي على الصعد الأمنية والاقتصادية والسياسية.

انتظرت هذه الوقائع لحظة شبيهة باللحظة الحالية، حين شنَّت روسيا حربها على أوكرانيا، لتكشف مدى هشاشة الأمن الغذائي العربي، والذي تسببت به السياسات الاقتصادية المشار إليها أعلاه، لأن الحرب دفعت أوكرانيا إلى وقف تصدير إنتاجها من الحبوب والزيوت، وغيرها من المواد الغذائية، كما دفعت روسيا إلى وقف تصدير الحبوب إلى الاتحاد الأوروبي، وتحدثت عن خطة لفرض قيود على التصدير، وعلى تعليق تصديرها إلى دول أخرى، حتى أواخر يونيو/ حزيران المقبل. وفي حين بيَّنت الدراسات التي تظهر هذه الأيام أن الدول العربية تعتمد في غذائها على القمح الروسي بنسبة تزيد عن 40%، وعلى القمح الأوكراني بنسبة تقارب 38%، بيَّنت أيضاً أن مصر التي تقع على نهر النيل، وتملك مساحاتٍ شاسعةً قابلة للزراعة، تستورد 70% من حاجتها من الحبوب. كما بيَّنت أن السودان الذي تتوفر له الشروط التي تتوفر لمصر لزراعة الحبوب يستورد حوالي نصف حاجته من القمح من روسيا. والأمر ينطبق على المغرب والجزائر وتونس واليمن والعراق بنسب تصل إلى 50%. وبينما لبنان يمكنه زراعة حاجته من القمح إلا أن حكوماته تفضل الاستيراد على دعم الزراعة والمبادرات الزراعية، وذلك بسبب سياسة التحاصص التي تُسيَّر وفقها مؤسسات الدولة ومنها الاقتصاد بكل جوانبه، وكذلك تحاصص النسب من الاستيراد. لذلك وجد لبنان نفسه في ورطة، لأنه يستورد 60% من حاجته من القمح من أوكرانيا، وهو بذلك مهدد بالمجاعة بحسب ما أفاد وزير الاقتصاد، أمين سلام، قبل أيام. أما إذا تمكّن من ابرام عقود مع دول أخرى لاستيراد حاجته من القمح، فإنه سيفشل في استجرارها، لأنه يفتقد السيولة المالية اللازمة لدفع ثمنها بسبب إفلاس الدولة، وبسبب رفض الصناديق الدولية إقراضه لامتناع طبقته السياسية عن إجراء إصلاحات اشترطتها هذه الصناديق، وهي إصلاحاتٌ ستكون كفيلة بإلحاق الضرر بهذه الطبقة ذاتها. أما سورية التي كانت تنتج ما يفيض عن حاجتها من الحبوب، فقد باتت تستورد حوالي نصف ما تحتاجه، بعد خروج قسم كبير من المناطق المخصصة لزراعة هذه المحاصيل عن سلطة الدولة، وبسبب موجات الجفاف وتعرّض حقول القمح للحرق المتعمد، وعدم استغلال النظام مناطق أخرى قابلة للزراعة لتعويض النقص فيضطر للاستيراد.

إذا تهيأ الظرف الموضوعي لاندلاع ثورات أو انتفاضات في بعض الدول العربية فإن الظرف الذاتي يتعلق في مدى وجود قوى ثورية

ولأن منع أوكرانيا تصدير الحبوب والزيوت، ومنع روسيا التصدير أو وضع القيود عليه، قد توازى مع إعلان 15 دولة أخرى تبنّيها سياسة حمائية للحفاظ على أمنها الغذائي، تضمّنت منع تصدير بعض المواد الغذائية، أو فرض قيود على هذه التصدير، والحبوب من هذه المواد. كما توازى مع تقليص الأراضي الزراعية المخصّصة لهذه المحاصيل بسبب فقدان بعض الأسمدة التي مصدرها المتحاربون، وبسبب ارتفاع أسعارها في الأسواق العالمية. بسبب ذلك، تلوح كارثة غذائية عالمية في الأفق، وستضرب الدول العربية المذكورة، على الأقل في هذا الموسم. ولا يمكن درء هذه الكارثة التي قد تصل إلى درجة المجاعة، إلا إذا سارعت حكومات هذه الدول، واتخذت إجراءات إسعافية، منها زراعة ما يمكن زراعته من أراضٍ بكل أصناف الحبوب، وتشجيع المزارعين والمواطنين وكل من هو قادر على الزراعة. كما عليها شراء المحاصيل من المزارعين بأسعار تشجيعية، خصوصاً أن بعض الدول العربية تشتري المحاصيل بأسعار أقل من أسعار المستورد.

في البحث في واقع الأنظمة العربية المهدّدة بالوصول إلى مرحلة الجوع، والتي تراكمَ لدى مواطنيها الوعي بفقرها وحرمانها من الحقوق والحريات، وتخلصت من خوفها، كما تطورت الإرادة لدى قسم كبير من أبنائها، تبقى هنالك موانع تتعلق بقدرة هذه الأنظمة على البطش. في السودان وتونس، تبين أن السلطة غير متماسكة، وبالتالي فإن القدرة لديها على ردع تحركات شعبية راديكالية، تصل إلى نسب قليلة بالمقارنة مع مصر أو سورية والمغرب والأردن أو حتى لبنان والعراق. وبالنسبة للبنان، على سبيل المثال، هنالك انطباع بأن السلطة هزيلة، غير أن تجربة انتفاضتي "طلعت ريحتكم"، سنة 2015، وأكتوبر 2019، بيَّنت مدى وقوف قوى السلطة وأذرعها الضاربة التي تمثلت في حزب الله وحركة أمل في وجه المنتفضين، وكانت ردة فعلها من القوة لدرجة وأدت هذه التحرّكات، ومارست حرباً إعلامية شيطنتها. كما مارست قوى أخرى في السلطة سياسة ديماغوجية، ركبت موجة الانتفاضة من أجل تفخيخها من الداخل وإفراغها من معانيها، كما فعل حزب القوات اللبنانية الذي يعد أحد أركان السلطة.

وجد لبنان نفسه في ورطة، لأنه يستورد 60% من حاجته من القمح من أوكرانيا، وهو بذلك مهدد بالمجاعة

وفي هذا السياق، نعلم من أدبيات الثورة وتعريفاتها والبحوث التي أسهبت في عرض مفهومها، ومفهوم الظروف التي تساهم في اندلاعها، أنها إن اندلعت ستكون ناقصة إذا لم تتهيأ الظروف المساعدة على إنجاحها، من موضوعية وذاتية وإجرائية وغيرها. لذلك، ستساعد أزمة الغذاء المتوقعة على تهيئة الظرف الموضوعي يوم تهتز أركان الأنظمة السائدة، وتوقن الطبقة الحاكمة بأن من المستحيل استمرارها بالاحتفاظ بسيادتها على الطبقات المحكومة، لأن أزمةً من هذا النوع لا بد أن تطاول هرم السلطة فتساهم في تصدّعها. ولن يكون هذا كافياً لاندلاع ثورة ناجزة، ولن يدفع ازدياد بؤس الطبقات الفقيرة ولا يأسها سبّبته الطبقات الحاكمة إلى الثورة، بل الذي سيدفع هو وعي هذا الفقر وهذا البؤس، كما أكّد ذلك منظّرو الماركسية الأوائل، وكما أعاد عزمي بشارة البحث فيه وأسهب، في كتابه "الثورة والقابلية للثورة"، في شرحه، واشتراطه لثورةٍ (ناجحة).

إذا تهيأ الظرف الموضوعي لاندلاع ثورات أو انتفاضات في بعض الدول العربية، فإن الظرف الذاتي الذي يتعلق في مدى وجود قوى ثورية توجّه الثورة وتستبدل النظام القديم بنظام جديد يحقّق أهداف الثوار في العدالة والحريات والحقوق، ويؤسس نظاماً جديداً مناقضاً لأنظمة التفقير والتبأئيس التي سادت عقوداً، يعدّ شرطاً أساسيا لمنع حرف هذه الثورات، كما حدث في مصر وتونس، على الأقل. ومع ذلك، يمكن تجاوز بعض هذه الشروط، ليس بفضل قياداتٍ أو توجيهاتٍ أو مراعاة أولويات، بل بسبب أن خواء البطون القريب سيكون هو الدافع للانتفاض المدوّي، بغض النظر عن مدى وصول أي شرط من تلك الشروط إلى النضوج أو بقائه دون مرحلة البلوغ.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.