عودة الصراع على سورية
وصف مراقبون سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، بعد أكثر من نصف قرن، بأنّه زلزال جيواستراتيجي كبير ستكون له العديد من التوابع والارتدادات في المنطقة، وهو أمر من شأنه تغيير موازين القوى الإقليمية، ممّا سيلقي بظلالٍ كثيفةٍ على إعادة صياغة خريطة التحالفات، وتموضع القوى الإقليمية المجاورة لسورية، التي ستكون في مواجهة موجة الزلزال السوري،لا سيّما الجارتَين الإقليميَتن المتنافستَين إيران وتركيا، اللتَين اتخذتا موقفَين مُتناقضَين تجاه سورية منذ العام 2011 وحتى اليوم، فضلاً عن إسرائيل ذات النزعة العدوانية التوسعية، وهو ما بدا واضحاً في مسلسل الانتهاكات الإسرائيليّة المُتزايدة أخيراً للأراضي السوريّة.
في المقدّمة تأتي إيران التي خسرت حليفها الرئيس في المنطقة، الذي لم تدخّر وسعاً لإنقاذه وبقائه، ودافعت عنه باستماتة ضدّ ما وصفته بـ"المؤامرة والإرهاب"، منذ بداية الحراك الشعبي في سورية في العام 2011، الذي واجهه نظام الأسد بالقتل والتدمير، واعتبرت إيران أن المعركة معركة أمن قومي بالنسبة لها، إلى درجة أنها دفعت بأعداد كبيرة من قيادات وعناصر من الحرس الثوري إلى الأراضي السوريّة، واستقدمت عناصر مقاتلة تابعة لذراعها في لبنان (حزب الله)، فضلاً عن إنفاقها مليارات الدولارات لدعم النظام السوري، فقد كان نظام الأسد جزءاً أساسياً من مشروعها الإقليمي، ومثّل الحلف الأسدي/ الإيراني الذي سُمِّي بـ"محور الممانعة" أقوى الأحلاف في المنطقة، بيْد أن سقوط النظام الأسدي في سورية وجّه ضربةً قاضيةً لمحور "الممانعة"، إذا ما أخذنا في الاعتبار نتيجة المواجهة الحربية بين إسرائيل وحزب الله، وهو ما يعني أن إيران فقدت نافذتها على شرق المُتوسّط، والجسر الذي يربطها بالعالم العربي، وهمزة الوصل بينها وبين ذراعها في لبنان، وهي في المجمَل خسائر استراتيجيّة فادحة.
أصبحت تركيا اللاعب الإقليمي الأكثر تأثيراً في سورية، والطرف الإقليمي الرابح الأوّل من سقوط محور "الممانعة"
أمّا تركيا التي تشترك مع سورية في أطول حدود بريّة مُشتركة، فقد أعلنت في 2011 دعمها لـ"حراك الشعب السوري نحو الحريّة"، وطالبت في عدّة محافل دولية بوقف "العنف ضدّ السورييّن". ويبدو واضحاً من المشاهد المتتابعة خلال الأسبوعَين الماضيَين، أن تركيا أصبحت اللاعب الإقليمي الأكبر تأثيراً في سورية، وهي الطرف الإقليمي الرابح الأوّل من سقوط ما سُمّي بمحور "الممانعة" وتحرّر سورية من القبضة الإيرانيّة، عقب سقوط نظام بشّار الأسد، كما يبدو واضحاً أيضاً أن تركيا هي الراعي الرئيس لأحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) ولتنظيمه المعروف بهيئة تحرير الشام، وهي التي أخذت على عاتقها مهمّة تأهيله وتهذيبه و"عَقْلَنَة" خطابه "الجهادي" القديم، وتقديمه في صورة جديدة مُطوَّرَة للمحيط الإقليمي وللمشهد الدولي، بل وتسويقه للقوى الدوليّة الكبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، لدرجة أن الرئيس الأميركي المقبل، المُنتخَب دونالد ترامب قالها صريحة، إنه يعتقد أن تركيا هي الطرف الفائز في سورية.
خلال السنوات الماضية تدخّلت تركيا عسكرياً في سورية أكثر من مرّة. كانت الأولى في أغسطس/آب 2016، عبر "درع الفرات"، دعماً لفصائل المعارضة السوريّة في مواجهة "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش)، وطرده من مدينة جرابلس في شمال سورية، أمّا الثانية فكانت في أكتوبر/تشرين الأول 2019، عبر عمليّة نبع السلام في شمال سورية، واستهدفت وحدات حماية الشعب الكردي المكوّن الرئيس لـ"قوّات سوريا الديمقراطية" (قسد)، المتمتّعة بحماية أميركية، والتي تتّهمها تركيا بأنها امتداد لحزب العمّال الكردستاني، الذي تصفه أنقرة بأنّه "منظَّمة إرهابية"، وكانت بهدف تأسيس منطقة عازلة مع سورية، أمّا الثالثة فكانت في فبراير/شباط 2020 عبر "درع الربيع"، ضدّ قوّات نظام الأسد والمليشيّات الموالية لها في إدلب، عقب مقتل 33 جنديّاً تركياً إثر غارة شنّتها طائرات حربية تابعة لقوّات الأسد على نقطة عسكرية تركية.
ويبدو جلياً هنا أن تركيا تخشى خصمَين في حدودها مع سورية، وتعتبرهما مَصدري تهديد لأمنها القومي، هما الخطر الكردي المُتمثّل في الطموحات الكردية ذات النزعة الانفصاليّة، التي تراهن على دعم واشنطن. والثاني ذلك التنظيم التكفيري المُتطرّف المسمى "داعش"، الذي ما زالت فلوله مختفية رغم القضاء على جسده الرئيس.
في منتصف القرن الماضي، سكّ الكاتب البريطاني الراحل باتريك سيل مصطلح "الصراع" على سورية، عبر أطروحته الشهيرة التي قال فيها إن سورية مرآة المصالح المُتنافسة على المستوى الدولي، وإن من يقود الشرق الأوسط لا بدّ له من السيطرة على سورية، بيْد أن هذا المصطلح لا يزال صالحا أساساً للتحليل، وهو ما تؤكّده الأحداث الجارية، فالصراع على سورية مُستعر مُحتدم لم يُحسم بعد، إذ كانت سورية طوال العقد الماضي، بفضل إجرام النظام الأسدي، مسرحاً لتجاذبات وصراعات إقليمّية ودوليّة بين فاعلين رسميّين من قوى إقليمية، بل وقوّات من جيوش نظامية، وآخرين غير رسميّين من جماعات وتنظيمات مسلّحة، متعدّدة المشارب، في مشهد صراعي بالغ التشابك والتعقيد، على درجة كبيرة من السيولة، ومن المبكّر محاولة التنبّؤ بمآلاته، لكن من المؤكّد أن ملامح المشهد السوري الجديد ستحدّد القوى الإقليمية الأقوى في المنطقة.
رغم تعدّد الفاعلين في مسار الأحداث وتفاعلات الصراع، يجري المشهد السوري في ظلّ غياب عربي شبه كامل
اللافت هنا أن عملية تبادل أدوار تجري من دون قصد أو ترتيب بين إيران وتركيا داخل المشهد السوري، إذ يأتي الانسحاب والانكماش الإيراني مصحوباً بتمدّد وتوسّع تركي لا تُخطئه عين، وإذا ما وسّعنا دائرة النظر والتحليل فإن هذا يجري في أكثر من بقعة ساخنة في الإقليم، وهو ما لا يتّسع المجال لتناوله تفصيلاً، أمّا المؤسف بحقّ، أن ما يجري في المشهد السوري، رغم تعدّد الفاعلين في مسار الأحداث وتفاعلات الصراع، يأتي في ظلّ غياب عربي شبه كامل، فالعرب لا يعرفون ماذا يريدون في سورية، ولا مَن هو الصديق ولا مَن هو العدو. ولا يعرفون مواطن المصالح أو مصادر التهديد، وهو ما يشي بأن النظام الإقليمي العربي فَقَدَ البوصلة، بل وربّما فَقَدَ الإدراك بما يجري في أرضه، أو الإحساس بالزمن من الأصل.