عودة الجنرال إلى مسرح الجريمة

عودة الجنرال إلى مسرح الجريمة

22 مايو 2022
+ الخط -

تعلّمنا في نظريات الجرائم أن القاتل يعود، دومًا، إلى مسرح جريمته، تلبيةً لنداء شيطانيّ في أعماقه، فهل ينطبق ذلك على الرئيس بشار الأسد، خلال زيارته التي نفّذها، أخيرًا، إلى مركز أيتام في دمشق؟ وقبل ذلك إلى واحدةٍ من ضواحي العاصمة، كانت مسرحًا لمعارك عنيفة بين قوات النظام ومليشيات المعارضة، على الرغم من أن "النظام" أبعد ما يكون عن قواته، لكون أغلبها يمارس مهامّه خارج النظام والقانون، ومنهم ما اصطلح على تسميتهم "الشبيحة"، الذين كان لهم سبق الفضل في حماية الأسد أزيد بكثير مما فعله الجيش.
والحال أنني أرجّح فرضية القاتل ومسرح الجريمة في ما يتعلّق بالزيارات الأسدية، على اعتبار أن الأيتام السوريين في معظمهم، حاليًّا، هم ضحايا الإبادات الجماعية التي شهدتها سورية في حروبها أخيرا، وللزيارة مغزى أبعد من الواجهة "الإنسانية" التي حاول الأسد التواري خلفها. وأراهن أنها تأتي انسجامًا مع مقولته "العرقية" الخالدة، التي أعقبت إبادته ثورة الربيع السورية، عندما صرّح، مرتاح الضمير، بأن "الشعب السوري أصبح الآن أشدّ تجانسًا في مكوناته"، ويقصد، طبعًا، بعد التخلّص من أي صوتٍ معارض لاستبداده. والعبارة تتضمّن بوضوحٍ لا لبس فيه أن ما حدث هو أشبه بالتطهير العرقيّ؛ حتى وإن لم يتخذ ذلك الطابع علنًا، إذ كان بمثابة تطهير البلاد من الرأي الآخر، ومن الحرية، والتعبير، وحقوق الإنسان.
كانت الزيارة احتفاءً بالأيتام، فعلًا، لأن الأسد يودّ لو يتحوّل شعبه كله إلى يتامى في الوقت الراهن، فمن شأن ذلك أن يجعل مهمّته أسهل لغسل الأدمغة الصغيرة، وتربيتها على مبادئ القائد الأوحد، الذي لا شريك له، فالأسد يريد طرازًا كهؤلاء اليتامى الذين بلا آباء أو أمهات من الذين يحملون ذاكرة تاريخية مضمّخة بعذابات "القائد الملهم"، وأجهزته البوليسية الاستخباراتية التي تتوزع على عشرات الفروع، وأبرزها فرع "الأمن السياسي"، الذي يعني، باختصار، حظر العمل السياسي لغير النظام وزبانيته، ومن يحاول غير ذلك فهو "عدوّ"، و"عابث"، و"مخرّب"، ومشكّك"، و"طابور خامس".
يريد الأسد عقولًا لا تحمل أيّ ذاكرةٍ عن مجازر النظام في سجون تدمر وصيدنايا والمزّة، وعن الإبادة الجماعية لمدينةٍ بأكملها كحماة، وعن ثورةٍ جاءت باسم "التصحيح"؛ لتصبح أغزر الثورات اقترافًا للخطايا والكبائر، تحت شعارات "الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة"، وكان من أوائل ضحاياها رفاق الأمس واليوم والغد.
حام القاتل حول مسرح جريمته؛ ليعرف إن كانت أركان جريمته مكتملة أم ما زال ينقصها بعضٌ من القتل وإذابة الأجساد بالأسيد، وهل صفحة تلك الذاكرات الصغيرة بيضاء حقًّا كما شاء لها أن تكون، وصالحة للانخراط في بوتقة "التجانس" التي اخترعها لتحويل الشعب كله إلى قطيعٍ مذعن لا يتقن غير الثغاء والثناء على القيادة "الأسطورية" التي منّ بها الخالق على الشعب، من حيث لا يحتسب.
ربما اطمأن القاتل إلى المخرجات المبهرة التي صنعتها مقدماته "المهولة"، غير أنه سرعان ما خالجه الشك، مجدّدًا، على وقع الكشف عن فصول مجزرةٍ جديدةٍ لمليشياته في حي التضامن، التي صدمت العالم بفصولها المرعبة، التي تماثل، إلى حد كبير، طرق الإعدام النازية في الحرب العالمية الثانية، عندما كان الضحايا يُجبرون على حفر قبورهم بأيديهم، وما إن يكتمل حفر القبر الجماعي الكبير حتى يلقون فيه ويطلق الجنود الألمان النار عليهم، ثم سرعان ما يهيلون التراب فوقهم وهم في مرحلة الاحتضار، فيموت معظمهم اختناقًا حتى قبل اكتمال احتضارهم.
وهنا تساءل القاتل إنْ تناهى إلى سمع اليتامى شيء عن هذه المجزرة الجديدة، ما يعني أن الجريمة لم تكن مكتملة الفصول، فهل ينبغي في هذه الحالة إبادة هؤلاء الأيتام، والبحث عن غيرهم، ممن لم تتلوّث ذاكرتهم بالحقائق بعد.
ليس مستبعدًا ولا مستغربًا أن يلجأ القاتل إلى مجزرةٍ جديدة، غير أن مأربه سيظلّ بعيد المنال؛ لأن ذاكرة الثأر من المستبدّين جينٌ ينتقل عبر الحمض النووي وتتوارثه الأجيال، ولن تُطمس جرائمه بأثر رجعيّ أو أماميّ، وسيدفع ثمنها، هو وزبانيته، ويطردون من المستقبل .. عندها فقط سيصبح المجتمع السوريّ متجانسًا فعلًا.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.