عودة الأب الأسير
الأسير الفلسطيني المحرّر علاء أبو زيد (إكس)
خدعتنا أفلام السينما حين رسّخت في أذهاننا مشهد خروج السجين من السجن بعد انتهاء مدة محكوميته الطويلة، وحيث يجد في انتظاره أفراد عائلته وجيرانه، الذين يستقبلونه باحتفال حاشد، وفي حالات قليلة يخرج السجين لكي يجد أن زوجته قد خانت العهد ولم تنتظره، فتزوّجت بآخر. أما في غزّة، بعد عام ونيّف من مقتلةٍ لم يشهدها التاريخ، فيخرج الأسير الذي أُسر خلالها من السجن لكي يكتشف أكبر مفاجأة في حياته، وينال صدمة عمره، وما يعجز عن تصويره وتخيّله أكبر المبدعين وكبار الأدباء.
في غزّة، سجلت حتى اللحظة 4889 عائلة أبيدت كلها، ولم ينجُ منها سوى شخص واحد، ليبقى شاهداً على جريمة الاحتلال، حاملاً الثأر بقية حياته، محمَّلاً بالألم المضاعف، بعد أن أصبح مثل ورقة خريفٍ جافّة في مهبّ الريح. والأكثر ألماً أن يكون أحد هؤلاء الناجين قد قبع في الأسر، ونال أعتى صنوف العذاب، وفيما ترك عائلته خلفه منذ ما يقارب العام، ولا يعرف شيئاً عنهم سوى أنه كان مثلهم يهرب من الاجتياح البرّي لمخيم اللاجئين الذي ولدوا فيه ولا يعرفون غيره، حتى إذا ما طُلب منهم إخلاؤه، وفيما كانوا يفعلون، اعتقله الجنود بلا ذنب، ووضعوا عصابة سوداء فوق عينيه، واقتادوه إلى أقبية سجونهم، ونال العذاب صنوفاً وألواناً. ولم يكن يعرف الليل من النهار. وفي الأوقات التي كان ينكمش فيها على نفسه، فيجمع جسده المرتجف برداً وألماً، ويكوّره بحيث يصبح رأسه لا يكاد يبين، فهو يسرح مع أفكاره، ويتخيّل أنه ذات يوم سينتهي هذا كله، وسيعود ليحتضن زوجته وأطفاله، مهما كان حالهم وأينما حلّوا، وهو لم يتخيّل أو يتوقع، ولو لحظة، أنه سيخرُج بعد كل هذه المعاناة، ليكتشف أنه أصبح الناجي الوحيد، وأنه أصبح رقماً يُضاف إلى قائمةٍ تزداد يوماً بعد يوم عن العائلات التي مُسحت من السجل المدني في قطاع غزّة.
قبل أيام قليلة، خرج الأسير المحرّر علاء أبو زيد، الملقب بـ"أبو النور"، ابن مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزّة، من المعتقل النازي الذي أمضى فيه أسوأ أيام حياته، وكان يعتقد أن أفراد عائلته سيكونون في انتظاره، ولكنه فوجئ بأنهم قد ماتوا جميعاً في قصفٍ همجيٍّ طاول مكان وجودهم، وفوجئ أيضاً بأن كل أهل مخيمه اللاجئين الفقراء، الذين علموا بموعد خروجه من قائمة أسماء الأسرى التي أُعلِنَت، قد خرجوا جميعاً لاستقباله ومواساته. والغريب أن هذا الأب، بعد صبر طويل على فراق عائلته، وبعد أن أيقن تماماً أنه فقدهم إلى الأبد، وحين علم بحجم المصيبة التي حلّت به، لم يجد شيئاً يفعله سوى أن يسجد لله شكراً على ابتلائه.
أعتقد أن لقب المعذَّب الوحيد هو الوصف الدقيق والأكثر عدلاً لو أردنا أن نطلقه على الناجي الوحيد من بين أفراد عائلة كاملة قتلوا في لحظة، وتركوا شخصاً واحداً خلفهم يتجرّع ألم الذكريات والفقد والوحدة، ويتلمّس وجودهم في الأماكن التي كانوا فيها، ويرى المستقبل غائماً من دونهم، لأنه كان يخطّط للمستقبل معهم. أما الأب العائد من الأسر الذي استهلك من روحه وعافية جسده الكثير، فقد كان يخطّط للمستقبل من أجل عائلته الصغيرة، وكان يحلم بأن يفتح عينيه ويرى أن كل هذا الجنون سينتهي، وسيجد نفسَه بين أطفاله وزوجته المحبّة على مائدة العشاء، وحيث يشعلون المدفأة، بحثاً عن الدفء في ليلة شتاء باردة، ولكنه اليوم قد أصبح وحيداً بلا أي سلوى، حتى البيت الدافئ اختفى، ولم يعد أمامه سوى أن يعيش في برودة قلبٍ إلى الأبد، فكيف يمكن أن يشعر بالدفء، وقد فقد أغلى ما كان يملك، وقد بخل عليه هذا العالم الظالم بممتلكاته الصغيرة التي لم تكن تنشُد من العالم غير الأمان.