عودة أبي أحمد والأمن المائي العربي

عودة أبي أحمد والأمن المائي العربي

20 يوليو 2021

أبي أحمد يدلي بصوته في الانتخابات البرلمانية الإثيوبية في أروميا (21/6/2021/الأناضول)

+ الخط -

قاد رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد حزب الازدهار (الحاكم) إلى فوزٍ كبير في الانتخابات النيابية التي جرت أخيراً، حسب النتائج المعلنة، وهو ما يُقدّمه بقوة التأييد الشعبي لقيادة الدولة من جديد، ويُعزّز شخصيته وطنياً وأفريقياً. وهناك تحفظ بسبب واقع الحرب في إقليم التيغراي الذي لم تشمله صناديق الاقتراع، وهو في قبضة المعارضة المسلحة، كما أن هناك انتقادات فرعية أخرى بشان نزاهة التصويت، لكنها لا تُسقط من حقيقة فوز أبي أحمد والتصويت الواسع له.
وهناك إشكالاتٌ طرأت في دوره رئيسا للحكومة في العهد الديمقراطي الجديد لإثيوبيا، والرجل الذي أعطى رسائل قوية إلى العهد المدني الجديد للقرن الأفريقي، تحت أمل بناء عصرٍ ديمقراطي مستقرّ في إثيوبيا، ينعكس إيجاباً على المستقبل المدني، وإخراج القرن الأفريقي من الصراعات القبلية المهلكة، وأطوارها السياسية المتصارعة، ولعبة الآخرين في أرضها، في ظل حكمٍ شموليٍّ دكتاتوري في إرتيريا، وصراعاتٍ تهدّد الأمل الصومالي. وهو ما أثاره خياره العسكري لمواجهة تمرّد التيغراي ذوي النفوذ القديم، والذي تقلص بعد تمكن أبي أحمد من أجهزة الدولة. وتكاد الشهادات تتواتر بأن قلب الصراع كان على النفوذ السياسي الذي فقدته القوة المعارضة في التيغراي، بعد العهد الذي سبق الديمقراطية الوليدة في إثيوبيا. غير أن الأضرار الضخمة بالمدنيين، والجحيم الذي صُبّ عليهم في أتون هذا الصراع، ألقى بظلاله بقوة على المشهد وعلى حكم أبي أحمد، فضلاً عن قضايا أخرى، أثّرت على صورة الرجل في حماسته للنهضة والسلام والديمقراطية في أفريقيا.

بعد الشرعية الجديدة التي اكتسبها أبي أحمد، لا يجوز أن نُلغي تميّز الرجل في وطنه ومع جواره العربي، ودوره الحاسم في الوساطة بين أهل السودان

ولكننا نشهد اليوم تزكية شعبية له، وهو ما يُعيد طرح الأسئلة الكبرى في تقدير رحلة أديس أبابا الحالية، بقيادة أبي أحمد، لفهم مستقبلها. وأول ما يحتاج التذكير به أن التعامل مع قيادة شعبية مسيحية، ذات شرعية ديمقراطية، ولها وعي بالرسالة الإسلامية المشتركة الوجود مع المسيحية الأفريقية القديمة، هو حالة إيجابية مهمة، لمنع أي فتنة صدامٍ دينيٍّ يستخدمها المتطرّفون أو اللعبة الدولية الإقليمية، وخصوصا حين نراجع وعيه الثقافي وأداءه الوطني الديمقراطي مع مواطنيه المسلمين. وللصراع اليوم في التيغراي بعدٌ قَبَلي وليس دينيا، وهذا أمرٌ مهم فهمه، لأن هذا الصراع متداخلٌ في القرن الأفريقي بين كل دوله، ما يُشير إلى ضرورة العودة إلى التصحيح عبر المجتمع المدني الذي لن يُسقط الحضور القبلي المؤثر في القرن الأفريقي، ولكنه يُنظّم حياة الشعوب في سبيل سلامها ونهضتها، وهو ما نتمنّاه وينعكس علينا في الوطن العربي.
ولذلك لا يُمكن أن نُلغي هذا السجل اليوم لأبي أحمد، حتى مع وجود صراعاتٍ قبليةٍ سياسيةٍ شرسة، مع التأكيد على حماية المدنيين، والإدانة المباشرة لكل من آذاهم من الجيش الإثيوبي أو الجماعات الحليفة لهذا الطرف أو ذاك، بما فيهم المعارضة المسلحة، ولكن مسؤولية الدولة مركزية هنا.
هذا كله، وبعد الشرعية الجديدة التي اكتسبها أبي أحمد، لا يجوز أن نُلغي تميّز الرجل في وطنه ومع جواره العربي، ودوره الحاسم في الوساطة بين أهل السودان، ومع غرابة تعنّت موقف حكومته في سد النهضة والتشدّد غير المبرّر، غير أن هذا الأمر قد تحكمه عوامل الصراع الداخلي، وتوازنات الإقليم الحسّاسة في القرن الأفريقي. وفي كل الأحوال، التصريح التصعيدي للمواجهة مع إثيوبيا منطق خطير لا يستند إلى مصلحة قومية لمصر ولا للسودان.

ليس من صالح مصر أن تُزجّ في مواجهة عسكرية، أو مواجهة سياسية صفرية مع أديس أبابا، على الرغم من التعنت المرفوض في موقف الأشقاء الإثيوبيين

والقول إن ذلك التوجه لمواجهة إثيوبيا عسكرياً، ضمن الأمن القومي العربي لمواجهة تل أبيب، أمرٌ غريب، فالمرحلة السابقة، بما فيها أجواء أزمة الخليج، شهدت تمكيناً غير مسبوق للإسرائيليين من حلفاء القاهرة، فضلاً عن التوافق المصري الإسرائيلي في ملفاتٍ أخرى، بدعوى مواجهة الربيع العربي والتيارات الإسلامية. وليس من صالح مصر أن تُزجّ في مواجهة عسكرية، أو مواجهة سياسية صفرية مع أديس أبابا، على الرغم من التعنت المرفوض في موقف الأشقاء الإثيوبيين، لكن تحويل الخلاف إلى صراعٍ شرس وتورّط عسكري هو ما يخدم تل أبيب ضد الأمن القومي العربي والمصري. والبديل الأفضل هنا العودة إلى أبي أحمد واحترام الوساطة الأفريقية وتعزيزها بدور عربي، وهو ما أُشير إليه في اتصال المسؤولين المصريين بالدوحة. فهذا الدخول القطري الذي يعتمد على قبول الأطراف الثلاثة وترحيبها سيساعد على تفكيك الاحتقان، وسواء كان الوسيط الداعم الدوحة أو غيرها، فالفكرة هنا أن مساحة التفاهم، على الرغم من كل لغة الخطاب التصعيدي من أديس أبابا، لا تزال ممكنة، لتنظيم الملف وضمان الحق المائي الضروري لمصر والسودان، وهو نجاحٌ ممكن جداً، فحين تُسحب أجواء التصعيد ستدرك أديس أبابا أن احتواء الجوار العربي الأفريقي هو في مصلحتها القومية أيضاً، بدلاً من إيجاد مساحاتٍ يبعثرها الغرب في صراع مرير، لن تتضرّر منه سوى شعوب المنطقة وأمنها وسلمها الأهلي.

نأمل أن يعود أبي أحمد إلى احتواء ديمقراطي لكل أطياف شعبه وأقاليمه، بدلاً من أن يُراهن على سقوطه

إننا اليوم، وفقاً للواقع العربي الكارثي والواقع الأفريقي المزدحم، نعيش في حشدٍ من الصراعات والتدخل الغربي الاستعماري القديم، في ظل محاولة الكولونيالية الجديدة التي تقودها باريس، لتحويل النظر عن جرائمها التاريخية في أفريقيا، بإيقاد صراع ثقافي خطير مع أشقائهم العرب. فيجب أن نستثمر كل مساحة لدعم الاستقرار والنهضة، ودعم علاقات التشارك بين الوطن العربي وأفريقيا، ودمج الهم العربي الأفريقي مع القارة السمراء نحو الحرية والدولة المدنية والنهضة الأخلاقية. وهذا لا يمكن تحقيقه وفقاً لمسطرة مثالية نؤمن بها كمبادئ، لكن كواقعية سياسية لا يُمكن إلا أن نبني على كل مساحة شراكة وتقدّم نحو تشجيع أخلاقيات سياسية تطوّرت عن الماضي الكئيب، وزنزانة الاستعمار والاستبداد التي خنقت أرضنا العربية والأفريقية، وقد يحتج على ذلك بالتراجع الإثيوبي، غير أن هذا التراجع نراه نسبيا أمام تميز أبي أحمد الذي نأمل أن يعود إلى تعزيز استراتيجية العلاقة، واحتواء ديمقراطي لكل أطياف شعبه وأقاليمه، بدلاً من أن يُراهن على سقوطه وسقوط تجربة إثيوبيا الوليدة.