عن وجه الهزيمة "المتديّن"

كانت قمم أهرامات الجيزة تبدو من شرفة منزلي، حتى تاريخ 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وذلك قبل أن تحجبها ناطحات إسمنتية قبيحة. بعد عامين، نظرت إليها قلقا، قبل أن أغادر إلى ميدان التحرير. مرّ "الميكروباص" بساحة جامعة القاهرة، الخالية تماما، طلبت من السائق التوقف، ونزلت، وقرّرت، في محاولة للسيطرة على قلق غير مفهوم، أن أذهب إلى "التحرير" ماشيا. ناداني ساخرا: "إنتو فين يا بني، الثوّار بيصحوا متأخّر ولا إيه"؟، كان الشاعر الكبير أحمد بخيت، سألته: إلى أين؟ فقال: إلى "التحرير" طبعا، ولكن أين زملاؤك؟ هل فشل اليوم؟ أجبتُه: بل لم يبدأ. كنّا في التاسعة صباحا، وموعدنا في الثانية عشرة ظهراً. كان بخيت، في مرحلة سابقة، معيدا في كلية دار العلوم، وكان علم البلاغة تخصّصه الدقيق، ومن ثم كانت له آراء لافتة في تحليل بعض النصوص، سألتُه لماذا توقف عن نشرها؟ فأجاب إن هذه ليست لحظة معرفة. أشار باتجاه الميدان قائلا: ربما في المستقبل. بعد رحيل حسني مبارك. ذهبت، مع أصدقاء، إلى الشيخ الأصولي طه جابر العلواني، وسألته عن آراء له ينقلها عنه طلابه، لكنها غير مكتوبة، وبالتالي، غير موجودة، أكد صحتها، فسألته: لماذا لا تنشر هذا الكلام الهام؟ فرد: لا لا، النشر الآن غير صحيح، ربما في المستقبل، حين تتغيّر المنظومة، ويصبح استقبال الناس هذه الأفكار ممكنا.
ذهبتُ إلى سورية، سائحاً، ومتحمساً، وقلقاً، وآملاً في غد. مررتُ من باب القدّيس توما إلى الجامع الأموي، ثم قطعت المسافة من الأموي إلى مقام محيي الدين ابن عربي، ماشياً، وصلت بعد غروب الشمس بقليل، ألقيت تحية منهكة على الشيخ الأكبر، ومعها أسئلة عن الثورات المغدورة وضحاياها، حرب إبادة غزّة وضحاياها، العالم الذي يحكمه الحمقى والمجرمون. يرد الشيخ: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي/ إذا لم يكن ديني إلى دينه دان/ وقد صار قلبي قابلا كل صورة.. أقاطعه في وقاحة: اسكت يا مولانا، ليس المشكل في التسامح، بل أعقد وأنيل.
أغادر إلى مسجد السادة الحنابلة، تحفة فنية معمارية تجريدية، في الطريق، أرى ابن عربي، ثانية، يمشي وسط طلابه، ويطارده الصبية، في حواري دمشق، يقذفونه بالحجارة، ويهتفون: يا كافر يا كافر، يحاول الطلاب دفعهم، فيقول الشيخ: اتركوهم، فقد صدقوا، يسأله الطلاب: كيف.. يصفونك بالكافر؟ فيرد مبتسما: هذه حقيقتي عندهم. أبتسم بدوري، وأردّد (من دون وعي): من يعرف أكثر يغفر أكثر.
باتت الجدالات الدينية منهكة، في غير طائل، تحول الجميع (تقريبا) إلى صبية، يطاردون ويقذفون ويقصفون. لسنا تراثيين، أو رجعيين، أو حتى محافظين، بل خائفين. خائفين من طغيان الحاكم، من رصاصات الدولة، من طائرات العدو، ومن أسلحة الدمار الشامل، والخداع الشامل، والاحتلال الشامل، والخائف تدفعه الغريزة إلى مخابئه، إلى كهوفه، إلى جحوره. الشارع قبيح، السياسات قبيحة، الممارسات قبيحة، الخطابات قبيحة، الفنون الجميلة قبيحة، فمن أين يأتي السواء النفسي؟ انقطع الوحي، في حدود علمي، ومات الأنبياء جميعا، وبقيت نصوص، تنتج خطابات، ينتجها بشر، ويؤمن بها بشر، ويطبقها بشر، ونحن البشر، وسط كل هذا الخراب، ما المتوقع منا؟
يرفض بعضنا، خوفا أو أنانية، أن يبدأ طريق القدس من حواري القاهرة، ولا يعنيهم أين يبدأ الطريق، وأين ينتهي، فهم يريدون ما يريدون هنا والآن وفوراً، ومن دون أثمان، فقد شبعنا دفعا، لكنها الحياة، سننها الكونية، وحتمياتها التاريخية، وقوانينها الطبيعية، مقدمات تفضي إلى نتائج، ودروب تفضي إلى طرق، ومسير يفضي إلى مصير. فإذا أردنا تجاوز عبادة البخاري إلى نقده، فإن الطريق يبدأ من تجاوز عبادة عبد الفتاح السيسي إلى محاسبته، وإذا أردنا التوقّف عن قطع الأب من لحم ابنته خوفا من شهوتها، فالطريق يبدأ من التوقف عن قطع الدولة من لحم مواطنيها خوفا من مطالبهم، وإذا أردنا إسقاط سلطة الماضي عن الحاضر، فالطريق يبدأ من إسقاط سلطة الحاضر على المستقبل. (إسحاق نيوتن!).