عن هبّة القدس

عن هبّة القدس

19 مايو 2021
+ الخط -

قبل عام فقط، أي في الذكرى الثانية والسبعين لنكبة فلسطين، كان الإحباط يخيّم على أجواء القضية الفلسطينية ومستقبل الصراع مع إسرائيل. في ضوء موازين القوى على الأرض، الصمت الدولي، الانهيار العربي، والانقسام الفلسطيني، كل المؤشّرات كانت تدفع باتجاه تحقيق إسرائيل تقدّما كبيرا في طريق تصفية القضية الفلسطينية. وجود أكثر الإدارات الأميركية قربًا من إسرائيل (إدارة ترامب) عزّز من صدقية هذه الاستنتاجات، إذ تمكّنت إسرائيل، خلال سنوات ترامب العجاف الأربع في رئاسة الولايات المتحدة، من تحقيق ما عجزت عنه في سبعة عقود. وقد شكلت مقاربة ترامب "الصفاقاتية" (Transactional) في السياسة الخارجية، ومن ضمنها ما اصطلح على تسميته إعلاميا "صفقة القرن"، مدخلا رئيسا لطي صفحة القضية الفلسطينية، أوكل ترامب تنفيذها إلى صهره ومستشاره، جاريد كوشنر، بعد أن انتزع ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي من يد وزارة الخارجية التي طالما تحكّمت رؤيتها به، حتى في ظل أكثر الإدارات الأميركية قربًا من إسرائيل.

حاول ترامب، خلال السنوات الأربع التي قضاها في الحكم (2017 - 2021)، تصفية كل ما كانت تسمى "بقضايا الحل النهائي" (القدس، اللاجئين، المستوطنات، ومسألة الحدود)، من دون الحاجة إلى عملية تفاوضية مع الطرف الفلسطيني. وقبل نهاية سنة حكمه الأولى، اعترف ترامب بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ووقّع، بمناسبة الذكرى السبعين لإنشاء "دولة إسرائيل"، مرسوم نقل السفارة الأميركية إليها. وفي السنة الثانية من حكمه، أوقف المساعدات المالية التي كانت الولايات المتحدة تقدمها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أداة للضغط عليها، حتى تعيد تعريف اللاجئ الفلسطيني. سعت واشنطن، التي كانت وراء إنشاء الوكالة عام 1949، إلى مساعدة اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم إسرائيل من أرضهم، ليقتصر تعريف الوكالة للاجئ على الجيل الأول للنكبة، وتجريد، من ثم، أبنائهم وأحفادهم من هذه الصفة، ما يعني إنهاء حق العودة (أو التعويض) لملايين اللاجئين الفلسطينيين بموجب قرار مجلس الأمن رقم 194. وفي إبريل/ نيسان 2019، اعترف ترامب بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية المحتلة. وقد جاءت خطوة ترامب الأخيرة في تنفيذ رؤيته لتسوية الصراع من باب شرعنة الاستيطان وترسيم الحدود، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أعلن وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، أن الولايات المتحدة لم تعد تعترف بالرأي القانوني إنّ بناء إسرائيل "مستوطنات مدنية" في الضفة الغربية "يتعارض مع القانون الدولي"، لتكتمل بذلك القطيعة التي أعلنتها إدارة ترامب مع السياسات التي حكمت المقاربة الأميركية نحو الصراع العربي -الإسرائيلي، سبعين عاما.

بعد تنفيذ أغلب بنودها، دعا ترامب إلى اجتماع في واشنطن أواخر يناير/ كانون الثاني 2020، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وزعيم المعارضة، بيني غانتس، وتمثيل دبلوماسي لبعض الدول العربية، للإعلان عن رؤيته لحل الصراع. كان الغرض من هذه "الاحتفالية" تأمين دعم عربي (خليجي تحديدا) يصب باتجاهين: الأول، يتعلق بالضغط على الفلسطينيين للقبول بمبادلة بعض الأراضي في الضفة الغربية بأراضٍ تسيطر عليها إسرائيل من جهة قطاع غزة. والثاني، يتعلق بتقديم الدعم المالي المطلوب لتنفيذ الشق الاقتصادي من الصفقة، والذي جرت مناقشته في ورشة البحرين عام 2019.

آخر خطوات محاولة تصفية القضية الفلسطينية جرت الصيف الماضي، عندما نجحت إدارة ترامب في دفع دول عربية إلى توقيع اتفاقات سلام مع إسرائيل، أو تبادل التمثيل الدبلوماسي معها، مقابل مكافآت تشجيعية محدّدة، مثل بيع الإمارات طائرات إف 35، ورفع اسم السودان عن قائمة الإرهاب، والاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.

في هذه الأجواء، جاءت هبّة القدس أخيرا، والتفاعل الشعبي الفلسطيني والعربي والعالمي معها، لتبدّد أجواء اليأس السائدة، ولتعيد التأكيد على الحقيقة التي قد تكون إرادة القوة نجحت في تغييبها فترة، وهي أنه ما لم يحصل أصحاب القضية المباشرون على حقوقهم كاملة لن تُطوى صفحة هذا الصراع، حتى لو تنادت أركان العالم الأربعة إلى منح إسرائيل ما ليس لها. لقد أحيا الفلسطينيون، بانتفاضتهم وتضحياتهم الأخيرة، الأمل لدى الشعوب العربية، وكل شعوب العالم المقهورة، بالقدرة على تغيير واقعهم، وتأكيد أنهم وحدهم من يقرّر متى، وأين، وكيف ينتهي هذا الصراع، حتى لو قرّر كل الآخرين خلاف ذلك.

AA8F4D7D-04C2-4B96-A100-C49FC89BAEBA
مروان قبلان

كاتب وباحث سوري