عن مونديال قطر وخليجي البصرة وشان الجزائر

عن مونديال قطر وخليجي البصرة وشان الجزائر

21 يناير 2023
+ الخط -

بعد نحو شهر على نهاية مونديال قطر الذي كان مهرجاناً وكرنفالاً حافلاً بالدلالات والدروس، انطلقت بطولة خليجي 25 في العراق منتصف يناير/ كانون الثاني الجاري، وبعدها بأيام جاءت بطولة أمم أفريقيا للمحليين (شان) قي الجزائر.

جاء مونديال قطر حافلاً بالدلالات السياسية والفكرية والسياسية والرياضية، مع النجاح المبهر في تنظيم بطولةٍ على أعلى مستوى وأجمل ما يكون، بحيث كان فعلاً الأفضل في آخر نصف قرن حسب استطلاع هيئة بي بي سي. وأكد المونديال، ضمن دلالاته ودروسه العديدة والبليغة، قدرتنا، نحن العرب، على النجاح والمنافسة العالمية بشكل إيجابي ومؤثر. إلى ذلك، عشنا في قطر تواصل الحضارات لا صدامها، وحقيقة أن فلسطين كانت ولا تزال قضيتنا المركزية، كما وحّدنا المونديال بوصفنا عرباً فعلاً لا قولاً فقط، من الدوحة شرقاً إلى مراكش غرباً التي التففنا أيضاً حول منتخبها، بعدما مثلنا أفضل تمثيل، إثر وصوله إلى نصف النهائي للبطولة الكبرى، وتعزيز حضوره وحضورنا ضمن الأربعة الكبار في العالم. ..

بعد نحو أربعة أسابيع، انطلقت بطولة خليجي 25 في البصرة، وذلك لأول مرة في العراق منذ أربعة عقود تقريباً، مع السؤال المنطقي هنا: لماذا تأخرت الاستضافة إلى هذا الحد؟ ولماذا لم يستضف العراق نفسه المونديال قبل ذلك رغم إمكاناته البشرية والمادية الهائلة جداً؟ كانت محاولة دعائية وإعلامية لإسقاط تجربة واستنساخ كل ما قيل، حرفيا، عن المونديال على البطولة، خصوصا مع أجواء الافتتاح الرائعة والحفل المبهر. ورغم الأجواء الرائعة، إلا أن كل شيء وُئِد في مهده وفي اللحظة نفسها، مع المهزلة التنظيمية ومشهد الفوضى الصادم، واقتحام الجماهير مقصورة كبار الزوار والاشتباك مع بعض الضيوف والمدعوين، ما دفع الوفد الكويتي إلى اتخاذ القرار المحقّ بالانسحاب مباشرة والعودة إلى بلاده، مع اتخاذ القرار الحكيم أيضاً بمواصلة مشاركة المنتخب الأزرق في البطولة. .. وهنا لا يمكن استبعاد أصابع إيران عبر أدواتها، كونها لا تريد نجاح العراق ونهضته، ولا عودته إلى بيته الخليجي والعربي العام، كي تحتفظ بهيمنتها التامة عليه كاحتلال تكتيكي أصغر تحت الاحتلال الأميركي الاستراتيجي والأكبر. ثم تبدّى الموقف الإيراني الحقيقي من البطولة عبر الاعتراض والضجيج السياسي والإعلامي والدعائي على إطلاق تسمية الخليج العربي عليها، وخنوع حكومة الحشد الشعبي التابعة لها أصلاً، وإصدار رئيس وزرائها محمد شياع السوداني أوامره بالحذر في استخدام المصطلح والاكتفاء بخليجي 25 في الإعلام الرسمي، مع صمت مطبق من أبواق الحشد الشعبي وأذرعه الإعلامية المموّلة والمشغلة إيرانياً أيضاً.

عشنا في قطر تواصل الحضارات لا صدامها، وحقيقة أن فلسطين كانت ولا تزال قضيتنا المركزية، كما وحّدنا المونديال بوصفنا عرباً فعلاً لا قولاً فقط

سعت الحكومة كذلك إلى استخدام البطولة لتبييض صفحتها وتجميل صورتها، ونفي حقيقة أنها خسرت الانتخابات، وأتت بتفاهم الاحتلالين، الأميركي والإيراني، ضمن صفقة فجّة وصارخة ومشينة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والتي تنازل فيها الأول عن حقوقه وثرواته، واعترف ضمنياً بالدولة العبرية، رغم أن اتفاق 17 أيار (1983) سيئ الصيت، كان أفضل منها ولم يفعل ذلك أبداً، مع الاحتفاظ بالحقوق حتى الخط 29 الذي يضم حقل كاريش الشهير أيضاً.

لافتٌ جداً أن البصرة أخذت على عاتقها وحدها تنظيم خليجي 25، رغم أن البطولة تلعب من مجموعتين (أربعة فرق لكل مجموعة). وكانت تُفترض مشاركة بغداد أو حتى أربيل في تنظيمها، إلا أن بغداد غير آمنة للأسف، مع الفوضى الأمنية الضاربة واستباحة أعضاء وغوغاء الحشد لها متى شاؤوا، بما في ذلك المنطقة الخضراء المفترض أنها مؤمنة ومحصنة. أما أربيل فالعلاقات متوترة وخلافاتها متعدّدة المستويات مع حكومة الحشد الشعبي في بغداد، رغم أنها تبدو كبقعة آمنة وواحة للاستقرار والنهوض والتنمية في البلد المضطرب.

وفي العموم، وفي خليجي البصرة، كان الجمهور العراقي البطل الحقيقي، بدا متعطّشاً لكرة القدم والحياة، علماً أنه كان حاضراً كذلك في ساحات المدينة والبلاد وميادينهما ضد هيمنة سلطة الحشد (أسقطها في الانتخابات)، حيث تعرض قادته ورموزه للاختطاف والقتل جهاراً نهاراً تحت أعين الأجهزة الرسمية الضعيفة أمام "الحشد" وتجرّئه على السلطة والبلد بشكل عام. وهو نفسه الجمهور الذي تلعب الكرة من أجله وفق العبارة الشهيرة الصحيحة "الكرة للجماهير" التي كانت ولا تزال صحيحة ومعبّرة، وتأكدت أيضاً في مونديال قطر الذي حقق أعلى نسبة حضور ومشاهدة في العقود الأخيرة.

كان شغف الجمهور البصراوي والعراقي الشيء الإيجابي الوحيد في البطولة، إضافة طبعاً إلى تجمّع الشباب من الدول المشاركة، وتعزيز الوحدة الخليجية ضمن وحدة مأمولة للعرب ككل. وفي ما يخصّ الجانب الرياضي الفني، جاء عادياً أو مقبولاً في أحسن الأحوال، خصوصاً مع مشاركة أفضل فريقين خليجيين، واللذين مثّلا عرب آسيا في المونديال، قطر والسعودية، في المنتخبات الرديفة. ولذلك لم يكن غريباً أن يتراجع مستوى البطولة الفني بشكل عام، وخروج منتخبات عريقة من المنافسة مبكّراً. وفنياً، كان وصولا مستحقّا لمنتخب العراق إلى النهائي، ثم الفوز بكأس البطولة، في ظل الروح العالية التي لعب بها المنتخب لإرضاء جمهوره المتعطش للفوز والحياة ما استطاع إليهما سبيلا.

في خليجي البصرة، كان الجمهور العراقي البطل الحقيقي، بدا متعطّشاً لكرة القدم والحياة

بعد أيام من افتتاح خليجي 25، انطلقت بطولة أمم أفريقيا للمحليين (شان) في الجزائر، وهي، منذ البداية، لم تواكبها أجواء دعاية إعلامية تسمح بمقارنتها بمونديال قطر مع خلافات وسجالات ذات طابع سياسي أثّرت سلباً على الافتتاح وأجواء البطولة بشكل عام، فقد شهد يوم الافتتاح الإعلان رسمياً عن عدم مشاركة الجار المغرب، رابع العالم وصاحب النتائج الباهرة في المونديال (أعطاه الفيفا شرف تنظيم مونديال الأندية في فبراير/ شباط المقبل)، بعدما تعمّدت السلطات الجزائرية إحراجه لإخراجه. وكان في الوسع فتح الأجواء أمام طائرة المنتخب المغربي، واعتبار البطولة الرياضية فرصةً للتلاقي وإبقاء القنوات المفتوحة، وإصلاح ما أفسدته السياسة. ولكن الأنظمة العربية، للأسف، لا تفكّر بهذه الطريقة. ثم جاءت كلمة حفيد الزعيم التاريخي في جنوب أفريقيا نلسون مانديلا مسيّسة ومنحازة، ولم يكن هذا مكانها، وتشعر بأنه دعا فقط لصبّ الزيت على النار، وما كان يجب إعطاؤه الكلمة أصلاً في بطولة أو مناسبة رياضية، وإبقاؤها في الأجواء الرسمية البروتوكولية المعتادة حيث كلمة للاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) وكلمة لنظيره الدولي (الفيفا) وكلمة للدولة أو اللجنة المنظّمة للبطولة.

لا بد من الإشارة إلى اختلاف "شان" عن البطولة المركزية الكبرى "كان"، كونها مخصّصة للمحليين في الدوريات الأفريقية، وبالتالي عدم مشاركة اللاعبين الناشطين في الدوريات الأوروبية الكبرى، مع غياب لافت لمنتخب مصر، رغم أنها من مؤسّسي "كاف" وتحتضن مقرّه، في تعبير عن سوء التخطيط والانهيار العام في البلد من نتائج سياسات النظام الخاطئة.

باتت الجزائر عاجزة حتى عن تنظيم بطولة صغيرة للمحليين كما ينبغي

في العموم، وفي حالتي العراق والجزائر، نتحدث عن بلدين عربيين غنيين بالبشر والحجر والمياه والنفط "والغاز"، وقيل دوما إنهما مرشّحان لتجاوز عتبة العالم الثالث نحو الأول بصحبة القوى الصاعدة تركيا وماليزيا وكوريا وإندونيسيا والهند والبرازيل والأرجنتين ثم جنوب أفريقيا، غير أن الاستبداد حطّم العراق وبدّد ثرواته وسلّمه على طبقٍ من فضة للغزاة، قبل أن يتكفل "الحشد الشعبي" بتدمير ما تبقّى، بما في ذلك الأسس التاريخية التي قام عليها البلد العريق؛ بحيث بات عاجزاً عن تنظيمٍ جيد آمن لبطولة من ثمانية فرق، ناهيك بتحوّله إلى دولة فاشلة مع نسب الفساد الخيالية، وسرقة ونهب مئات مليارات الدولارات من الخزينة العامة، بحيث بات عاجزاً، رغم ثرواته الهائلة، عن حل مشكلة البنى التحتية والخدمات الأساسية، وهو لا يزال يستورد الغاز والكهرباء من إيران صاحبة المصلحة في إبقائه ضعيفاً تحت سيطرتها وهيمنتها.

أمر مماثل يمكن قوله عن الجزائر أيضاً مع إمكاناتها الهائلة التي حطّمها نظام العسكر الاستبدادي الذي نهب 23 ملياراً خلال 25 عاماً، كما قال الرئيس الراحل محمد بوضياف، ثم أخذ النظام البلاد كلها إلى الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، فقط للبقاء بالسلطة، وأخيراً التفّ على حراك الشباب المنتفض لإعادة إنتاج نفسه مع مساحيق تجميل وأقنعة، بحيث بات عاجزاً حتى عن تنظيم بطولة صغيرة للمحليين كما ينبغي. وخطت بالقدم اليسرى منذ لحظاتها الأولى.

في الأخير، بتركيز واختصار، تملك قطر إمكانات كبيرة، مع حكم رشيد أيضاً، بحيث نظمت بطولة عالمية واستضافت ملايين المشجّعين والزوّار، وقدّمت نموذجا مبهرا جدّا للعالم مع تعزيز عدالة قضايانا وحقيقة أننا أمة واحدة ذات رسالة خالدة، بعيداً عن الاستبداد والفساد وشعاراته الجوفاء، بينما كان الجمهور المسحوق والمستضعف والمتعطّش للرياضة والحياة هو البطل في العراق والجزائر، ويستحقّ بالتأكيد أنظمة ديمقراطية شفّافة ونزيهة وحكما رشيدا خاليا من الاستبداد والفساد.