عن معضلة اللقاحات في تونس

عن معضلة اللقاحات في تونس

11 مارس 2021

جرعات من اللقاح الروسي ضد كوفيد 19 في مطار قرطاج (9/3/2021/Getty)

+ الخط -

منذ الإعلان عن ظهور فيروس كورونا الخبيث وانتشاره في مختلف أنحاء العالم، شعرت البشرية بخطر داهم يهدّد وجودها، فقد تزايد عدد الوفيات بشكل مهول في وقت قياسي، وأقفرت المدن الكبرى، وتعطّلت مصالح النّاس، وعمّ الإحساس بالخوف واللايقين الاجتماع البشري، وضرب الوباء الاقتصاد، وهو عصب العمران البشري، في مقتل، فضعفت التجارة البينية وتوقفت السياحة وكثرت البطالة. لكن الإنسانية ما لبثت أن استوعبت الصدمة، وتجنّدت لمكافحة الجائحة، ووضعت تدابير وقائية للحدّ من انتشار الفيروس القاتل. وبالتوازي، انصرفت العقول الابتكارية والمخابر العلمية إلى البحث عن لقاح مضادّ لكورونا. وتبارت في هذا المضمار البلدان المتقدّمة، وبذلت الجهد والمال والوقت لتصنع التاريخ، ونافس كلّ بلد الآخر ليظهر في مظهر أوّل من اكتشف اللقاح وأنقذ البشرية. ونجح الإنسان/ المفكّر والعقل التقدّمي المبدع، في أقلّ من عام، في إنتاج لقاحات مضادّة للفيروس الفتّاك. وتنافست الدول بعد ذلك في مدى قدرتها على استحضار اللقاح، وتأمين التطعيم وضمان استفادة كلّ المواطنين منه، للحدّ من انتشار الوباء، وحتّى يستعيد كلّ بلد عافيته الاقتصادية في أقرب وقت ممكن. وبدا أنّ أداء السلطات التونسية في هذا المجال باهت، متعثّر، بل مرتبك. وتجلّى ذلك الفشل في الحصول على كمّيات كافية من اللقاح لعموم التونسيين، وعدم الشروع في حملة تطعيم المواطنين إلى الآن.

كشفت أزمة اللقاحات عجز أصحاب القرار عن توفير الكميات المناسبة من الجرعات المضادّة لفيروس كورونا في الوقت المناسب

أعلنت شركات دوائية عالمية وفْرة سبعة لقاحات على الأقل مضادّة للفيروس التاجي هي (فايزر بيونتيك، موديرنا، سبوتنيك V، أسترازينيكا، سينوفارم، كورونافاك، جونسون آند جونسون) ، ومن بين هذه اللقاحات اثنان رخّصت لهما منظّمة الصحة العالمية، فايزر/ بيونتيك الألماني الأميركي، وأسترازينيكا البريطاني السويدي. ومع ذلك لم تشتر تونس بعد رسميا أيّا من تلك اللقاحات، وباتت من بين الدول القليلة في العالم الثالث التي لم تتمكّن من تطعيم مواطنيها ضدّ الوباء القاتل. ويتساءل معظم التونسيين اليوم بإلحاح: متى يأتي اللقاح؟ لماذا تمكّنت دول محدودة الإمكانات من الحصول على دفعاتٍ معتبرةٍ من اللقاح، ولم تفلح تونس بعد في ذلك؟ كم ينبغي أن يحصد الوباء من أرواح التونسيين حتّى يتمّ استقدام اللقاح؟ علما أنّ عدد الذين أصابهم فيروس كورونا يقدّر بأكثر من 235000، في حين بلغ عدد الوفيات 8135، وهو مرشّح للزيادة. والمسؤولية في هذا التقصير الخطير الذي يكلّف مواطنين حياتهم ملقاة أساسا على وزارة الصحّة، ووزارة الخارجية، والدبلوماسية التونسية التي بدت عاجزةً عن مدّ جسور التواصل مع مخابر الأدوية في الوقت المناسب، ولم توظّف علاقاتها الدولية والحضور الناعم الناجع للجالية التونسية في الخارج، للتعجيل بتأمين حاجة البلاد إلى اللقاح. وقد صرّح وزير الصحة، فوزي مهدي، بأنّ البلاد ستتلقى دفعة معتبرة من الجرعات مع منتصف شهر فبراير/ شباط المنقضي، لكنّ ذلك لم يحصل. ثم تمّ الوعد بأنّ اللقاح المطلوب سيصل بداية شهر مارس/ آذار الجاري لكنّ ذلك لم يتحقق بعد. وأثار اضطراب التصريحات والارتباك في تحديد موعد نهائي مؤكّد لتسلّم اللقاحات، وبدء تطعيم الناس ضدّ الوباء، استياء معظم التونسيين، وعمّق قلّة ثقتهم بمؤسسات الدولة الرسمية.

عدد الذين أصابهم فيروس كورونا يقدّر بأكثر من 235000، في حين بلغ عدد الوفيات 8135، وهو مرشّح للزيادة

ويمكن تفسير هذا التأخير في وصول الجرعات المضادّة لكورونا بسوء تقدير من الجهات المسؤولة في تونس، فقد اطمأنّت السلطة الحاكمة لتمكّن فريق وزارة الصحة على عهد عبد اللطيف المكّي (وزير حركة النهضة في حكومة إلياس الفخفاخ) من السيطرة إلى درجة معتبرة على الموجة الأولى من الوباء، ولم تبادر مبكّرا بجدولة طلباتها من اللقاحات وإبرام عقود شراء مع مخابر اللقاحات في تلك الفترة. وبعد إقالة الوزير المكّي بسبب تقديم حركة النهضة وحلفائها في البرلمان عريضة سحب ثقة من الفخفاخ، تمّت إدارة وزارة الصحة بالنيابة، وجرى تسييرها بطريقة صورية، وظلّت في شبه عطالةٍ شهورا. وفي الأثناء، استفحل الوباء في تونس والعالم. وقدّمت معظم البلدان، في تلك الفترة، مطالبها إلى شركات الصناعات الدوائية، وأبرمت معها عقود شراء مسبق الدفع، والشركات المذكورة وقتها في طور تجريب اللقاحات ولم تطرحها بعد في السوق العالمية. ومن ثمّة، فإنّ الحسّ الاستباقي لتلك الدول، وجاهزيتها المالية، وفاعلية دبلوماسية الطوارئ (Emergency diplomacy) عندها، ذلك كلّه مكّنها من الحصول على اللقاحات مبكّرا، في حين تراخت المنظومة الحاكمة في تونس، وانشغلت بالمناكفات السياسية، والصراع على المناصب الحكومية، ولم تلتفت إلى اعتبار استقدام اللقاح وتأمين التطعيم أولويةً وطنيةً عليا مبكّرا. ولم تهتمّ جدّيا بهذا الشأن إلاّ أخيرا، فوجدت نفسها أمام ضغط دولي مكثّف على المخابر. بل إنّ بلدانا احتكرت اللقاح أصلا ومنعته على غيرها. ومن ثمّة تأخّر وصول اللقاح إلى التونسيين.

تراخت المنظومة الحاكمة، وانشغلت بالمناكفات السياسية، ولم تلتفت إلى اعتبار استقدام اللقاح وتأمين التطعيم أولويةً وطنيةً عليا مبكّراً

يُضاف إلى ذلك أنّ تعويل تونس أساسا على الحصول على حصّتها من منظومة كوفاكس، وعدم انخراطها في منظوماتٍ عديدةٍ أخرى، أخّرا من فرص تسلّمها جرعاتٍ عاجلةٍ من اللقاح. و"كوفاكس" مبادرة أطلقتها منظمة الصحة العالمية والمفوضية الأوروبية في إبريل/ نيسان 2020 لمواجهة فيروس كورونا. وتسعى إلى تجميع جهود الحكومات والمنظمات الصحية العالمية والمُصنِّعين، والعلماء والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني والعمل الخيري، بهدف ضمان وصول مبكر وعادل إلى تشخيصات كوفيد 19 وعلاجاته ولقاحاته، والملفّات الطلبية الموجّهة إلى مَرْفق كوفاكس كثيرة. ويعمل على توفير اللقاح لـ145 دولة مسجلة عنده، ويفرض تدابير معقّدة وكثيرة لتأمين تسليم كلّ بلد مستحقاته من الأمصال المضادّة لكورونا. ويُعطي الأولوية للبلدان الفقيرة وذات الكثافة السكانية الكبيرة. وقال مدير عام منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، "إنّ الجرعات التي يجري توزيعها عبر مرفق كوفاكس لا تزال قليلة، وأول دفعة تغطي بين 2% و3% من سكان الدول التي تحصل على لقاحات كوفيد "19. وبلغ إجمالي عدد اللقاحات التي تم توزيعها عبر "كوفاكس" 20 مليون جرعة وصلت إلى 20 دولة فقط، بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة. ومن ثمّة، أحرى بتونس عدم الاقتصار على التسجيل في المنظومة المذكورة، والتوجّه إضافة إلى ذلك إلى إبرام عقودٍ مع شركات أخرى، والتعجيل بمنح تراخيص للقاحات موثوق بنجاعتها. والغاية تحصين المواطنين من الجائحة، وتأمين حقّهم في التطعيم، فالمسألة قضيّة حياة أو موت. وتوفير الأمصال يبعث رسائل طمأنة إلى النّاس، ويُخبر بأنّ المنظومة الحاكمة حريصةٌ على حياتهم، ومعنيةٌ بضمان سلامتهم الصحية. يضاف إلى ذلك أنّ كسب معركة كورونا يعني إمكانية استعادة الاقتصاد التونسي حيويته. والتأخّر في توفير الأمصال، وفي الانتصار على سطوة الفيروس، يزيد من عدد الضحايا، ويؤجّل عودة السيّاح والمستثمرين الأجانب إلى تونس.

ختاما، كشفت أزمة اللقاحات في تونس عجز أصحاب القرار عن توفير الكميات المناسبة من الجرعات المضادّة لفيروس كورونا في الوقت المناسب، وهو ما يمثّل خطرا على صحّة عموم المواطنين، وتهديدا لحقّهم في الحياة، وأخبرت الأزمة بتفكك هياكل الدولة في الداخل والخارج، وعدم التنسيق بينها في إدارة مشروع التطعيم ضدّ كوفيد 19. كما عرّت هشاشة المنظومة الصحية التونسية، ومحدودية الحسّ الاستباقي لدى المشرفين عليها في مستوى كيفية إدارة الأزمات والجوائح الطارئة. ومن المهم بمكان أن تتّجه الأطراف المسؤولة إلى عصرنة قطاع الصحة العمومية عبر رقمنته، وتطوير بنيته التحتية، وبعث هياكل ابتكارية واستشرافية داخله، وتوفير خدمات القرب الطبية للمواطنين والزائرين، وتعزيز المناطق الداخلية بالعدد الكافي من الأطباء المتخصّصين. ومن المفيد تنويع المؤسسات الاستشفائية والصناعات الدوائية وتحفيز المبادرات الفردية النوعية في القطاع. ومعلومٌ أنّ رقيّ المجتمعات من رقيّ مرافقها الصحية وخدماتها الطبية. ذلك أنّ الظروف الصحية الجيّدة أساس الحياة وقوام العمران والازدهار لا محالة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.