عن لقاء السوداني والشرع في الدوحة
أمير قطر والسوداني وأحمد الشرع في الدوحة (17/4/2025 موقع وكالة الأنباء العراقية)
منذ اللحظة الأولى لنشر صورة لقاء رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني بالرئيس السوري أحمد الشرع، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في الدوحة، سال حبر كثير، وهاجت وماجت وسائل الإعلام العراقية بين مادحٍ تلك الخطوة "الكبيرة" و"الرعاية الكريمة"، ومنتقد (ومتوعّدٍ) السوداني بالويل والثبور وعظائم الأمور، فضاعت بين هذا وذاك تفاصيل كثيرة، ومقاربات أكثر بشأن ما يمكن أن يسفر عنه هذا التقارب، الذي بدا متأخّراً بعض الشيء، ولكنّه على العموم أفضل من ألا يأتي مطلقاً.
بدايةً، لا بدّ من العودة قليلاً إلى الوراء، إلى ما قبل يوم من نشر الصورة التي جمعت السوداني بالشرع في الدوحة (الخميس الماضي)، إذ كانت وسائل الإعلام العراقية، الموالية لإيران وقواها السياسية، تشرع في هجمةٍ واسعةٍ ضدّ السوداني بسبب إعلانه (في ملتقى السليمانية مطلع الأسبوع المنصرم) أن الشرع مُرحّب به في القمة العربية في بغداد (منتصف مايو/ أيار المقبل)، وأنه ستوجّه إليه دعوة رسمية. في خضمّ هذا الهجوم "الولائي" الواسع على السوداني بسبب الدعوة المُرتقَبة، نشرت قناة صابرين (الولائية) في "تليغرام" ما قالت إنها وثائق تُنشر للمرّة الأولى عن الفترة التي قضاها الشرع في العراق، منذ لحظة دخوله واعتقاله من الأميركيين، وحتى لحظة تسليمه للقوات العراقية، ومن ثمّ الإفراج عنه بعد عام 2011، وعودته إلى سورية.
بدا النظام الجديد في دمشق متصالحاً مع نفسه، وواقعياً جدّاً في التعاطي حتى مع خصوم الأمس، ويخطو خطواتٍ وازنة في استعادة دور سورية في المنطقة
الوثائق التي كان يفترض أنها تدعم الحملة الإعلامية الموجّهة ضدّ السوداني، بسبب دعوته الشرع، أكّدت ما كان قد تحدّث به الشرع (في لقاءات عدّة) عن دوره في أثناء وجوده في العراق، بل زادت على ذلك بأنّها نشرت وثيقةً رسميةً صادرةً من القضاء العراقي تؤكّد براءته من أيّ تهمة، خاصّة أنه اعتقل عام 2005 في الموصل باسم أمجد النعيمي، وبقي تلك الفترة في السجون الأميركية (سجن بوكا)، حتى تسليمه إلى القوات العراقية عام 2010، قبيل انسحاب القوات الأميركية من العراق، وبعد أن قضى عاماً وأكثر في السجون العراقية، وأُفرج عنه لعدم تورّطه بأيّ جناية، وعدم ورود أيّ دعوة بحقّه. نشر الوثائق المتعلّقة بالشرع في أثناء وجوده في العراق برّأه بالكامل من أيّ تهمة تلوكها عادة ألسن معارضي التقارب العراقي مع سورية من الخطّ الموالي لإيران في العراق، بغضّ النظر عن القصد من نشر قناة "ولائية" تابعة لإيران مثل هذه الوثائق في هذا التوقيت تحديداً.
بالعودة إلى الدوحة، تفيد المعلومات بأن طائرة السوداني هبطت في مطار حمد بُعيد الثالثة ظهراً، وغادرت في التاسعة من مساء ذلك اليوم، وأن اللقاء عُقِد في قصر لوسيل برعاية أمير دولة قطر، وحضور رئيس الوزراء وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، بمعنى أن اللقاء لم يكن عابراً، وأنه خطّط له جيّداً، والنتائج (بحسب ما نُشِر في بغداد ودمشق) كانت مثمرةً وبنّاءةً، وأفضى الاجتماع إلى تفاهماتٍ تُعزّز العلاقة بين البلدَين.
بقي العراق، منذ سقوط نظام المخلوع بشّار الأسد، يتعامل بتوجّس كبير مع ما آلت إليه الأوضاع في سورية، فقد فقدت إيران، ومن ورائها أتباعُها في العراق، حليفاً استراتيجياً، ونفوذاً كبيراً، ومساحةً واسعةً للتحرّك والمشاغلة في مختلف الجبهات التي تسعى فيها طهران، حتى إن المعلومات كانت تشير إلى غرفة عمليات إيرانية شُكّلت في العراق من أجل إطاحة النظام الجديد، وهو ما تمخضّ في سلسلة أحداث الساحل السوري، ودور تلك الغرفة فيها. وجد العراق الرسمي نفسه محشوراً في زاوية ضيّقة، فهو بين أن يقبل بإقامة علاقة كاملة ومتكاملة مع النظام الجديد، ويستغلّ الفرصة لذلك، وأن يستجيب للضغوط الإيرانية، عبر قواها السياسية والفصائلية في الداخل، إلا أن الأمر تغيّر على ما يبدو، وتحديداً بعد فشل المحاولة الانقلابية في الساحل السوري، إذ أدرك الجميع حينها أنه لا بدّ من التعامل مع الواقع السوري الجديد بواقعية أكبر، خاصّة أن النظام الجديد في دمشق بدا متصالحاً مع نفسه، وواقعياً جدّاً في التعاطي حتى مع خصوم الأمس، والأكثر من ذلك، أنه بدأ يخطو خطواتٍ وازنة في استعادة دور سورية في المنطقة، وهنا كانت اللحظة الفاصلة عراقياً.
يحتاج العراق إلى سورية، فالنفوذ الإيراني يتآكل، والاعتماد على طهران بات خياراً غير مقبول
عدة اجتماعات قادها السوداني مع قادة الإطار التنسيقي، أفضت إلى أهمّية مراجعة العلاقة مع سورية، فكان أن اتخذ ائتلاف إدارة الدولة (يضمّ قوىً شيعيةً وسنّيةً وكرديةً) قراراً بفتح قنوات التواصل مع سورية الجديدة، فزار بعض ساسة العملية السياسية في العراق دمشق، زياراتٍ غير مُعلَنة، مهّدت للقاء الذي جمع السوداني بالشرع برعاية قطرية في الدوحة. يحتاج العراق إلى سورية في هذه المرحلة المفصلية، فالنفوذ الإيراني يتآكل، والاعتماد على طهران بات خياراً غير مقبول عربياً وإقليمياً ودولياً. وبالتالي، للعراق مصلحة في تجاوز تلك المرحلة، والبحث عن مصالحه بعيداً من إملاءات طهران، حقيقة يدركها قادة "الإطار التنسيقي" في العراق. لذلك، فإن كلّ من يعتقد أن زيارة السوداني إلى الدوحة ولقاءه الشرع هما من دون موافقة القوى العراقية الموالية لإيران واهم. فالسوداني، ورغم ضجيج الإعلام الموالي لإيران، لا يمكنه أن يُقدم على خطوة كهذه من دون ضوء أخضر من القوى السياسية الشيعية الموالية لإيران، خاصّة أنها باتت ترى في الرجل فرصتها الأخيرة لخلاصها، والإبقاء عليها، وعلى وجودها المادّي قبل السياسي، في ظلّ عالم متغيّر، وشرق أوسط جديد يُنذر بعواصف صيفية ساخنة.