عن كورونا والسيادة المتأصلة

عن كورونا والسيادة المتأصلة

12 مارس 2021
+ الخط -

في وقتٍ كانت فيه سيادة الدولة الوطنية وتراجعها على مدار ثلاث عشريات من السنين محلّ تساؤل، خصوصا بعد الزيادة المستمرّة لمطالب التدخل الخارجي من النظام العالمي واقتصاد السوق الحر؛ يأتي وباء كورونا المستجد لإبراز مفهوم السيادة في واحدةٍ من أكثر لحظاتها وضوحا للقرارات والإجراءات التي اتخذتها الدول لمواجهة الوباء العالمي، مثل حظر التجول الداخلي والطيران الخارجي وإغلاق الحدود، ولجوء عدد منها إلى فرض القوانين العرفية أو الطوارئ، وتوسيع دائرة صلاحيات الأجهزة الأمنية والجيش، في إدارة عمليات لوجستية ضخمة، على حساب الحريات في الانتقال والتجارة، مع تقليص التفاعل مع الخارج من خلال تراجع التجارة الدولية والسياحة، واتجاه الدول إلى تعزيز الإجراءات داخل جغرافيتها بتعاملها مع الفيروس محليا خوفا من انتشاره. ورأينا كيف أن مكافحة الوباء المستجد خضعت لقرارات وطنية أكثر من خضوعها لمؤسسات دولية (منظمة الصحة العالمية مثلا)، فالجزء الأكبر من جهود الاستجابة لأزمة الفيروس كان قوميا بطبيعته، ولم تقده مؤسساتٌ دولية متعدّدة الأطراف.

ساهم تفشّي الوباء بدرجات متفاوتة في تسليط الضوء على الجوانب السلبية للعولمة، مثل انتقال الأمراض بشكل متسارع، حتى أصبحت كل دولةٍ تميل إلى تقليص الاعتماد المتبادل أو التكامل مع غيرها من الدول. هذا بالإضافة إلى جانب تنامي مؤشرات الحمائية والعزلة دوليا، وهو ما يعيد المنظور إلى الدولة القومية التي تتبناها النظرية الواقعية، وتؤكد على السيادة والمصلحة القومية.

تنامي مؤشرات الحمائية والعزلة دوليا، بما يعيد المنظور إلى الدولة القومية التي تتبناها النظرية الواقعية، وتؤكد على السيادة والمصلحة القومية

ولكأن الدولة الوطنية اليوم تستعيد بعضا من مجدها الغابر، وهي التي تقود، إلى حد ما، المعركة ضد انتشار كوفيد - 19، فحالة الطوارئ التي يشهدها العالم بسبب الوباء توضح أنّ الدولة ما زالت فاعلا مركزيّا في السياسات الدولية المعاصرة، والفاعلون من غير الدول، بمختلف صورهم، الوطنية والعبر- وطنية، أصبحوا في أحسن الأحول فاعلا تابعا. وبهذا يتّضح لنا كيف شكّل فيروس كورونا قوة دفع رئيسية لتعزيز سيطرة الدولة مجتمعيا، وهو ما تجلّى مع الإجراءات والتدابير الاحترازية المشدّدة التي اتخذتها دول عديدة، سيما المتعلقة بالتباعد الاجتماعي وقرارات الإغلاقات المستمرة أسابيع متواصلة. ورأينا كيف زاد كوفيد - 19 من أهمية الخدمات الوطنية التي تقدمها الدولة، للتعامل مع حالات الطوارئ: الرعاية الصحية، قوات الاستجابة للطوارئ، ونظام التعليم، والنقل العام... إلخ، وتقديم فرص عمل بديلة أو تعويضات للذين فقدوا وظائفهم بسبب الأزمة.

بينما يكتسب الوباء، بانعكاساته على كل المجالات، بُعدا عالميا، لا تزال عملية مكافحته مقتصرةً على الصعيد الوطني بنسبة كبيرة. بعبارة أوضح: تكافح كلّ دولة كوفيد - 19 بما لديها من إمكانات متاحة، وسيتحول هذا الوضع بالنسبة للدول إلى عملية تعلّم، وينتظر أن ينعكس على سلوكياتها بعد الأزمة، فالدولة الوطنية بدت هي الفاعل الرئيسي والمركزي، وهي من تقرّر من سيتم إنقاذه وبأي طريقة وإلى متى.

أظهرت لنا الجائحة عودة الدول الرأسمالية إلى أنظمة الحمائية الاقتصادية مع غيابٍ لمفردات التكامل والتعاون الأوروبية، وحلّت محلّها سياسات الحدود والقومية والأمن القومي

ولكن على الرغم من أن التعرّف على عالم "ما بعد كورونا" في ظل التطورات الدراماتيكية المتسارعة سيكون صعبا، لكنه يستحق المجازفة الفكرية، فالمؤشّرات الأولية توحي باستنتاجات سيكون لها أثر في كتابة مفاصل في العلاقات الدولية، وأن ثمّة مراجعاتٍ ستتم استنادا لتداعيات وباء الفيروس عالميا، ومنها قيم النظام الدولي السائد الذي تسيطر عليه الأيديولوجيا "الليبرالية" بشقّيها، الكلاسيكي والجديد، والتي تحدُّ من سلطة الدولة القومية، وتعزّز آفاق التكامل والتعاون بين الدول، ورأينا كيف غاب التعاون الدولي بمجرّد تعرّض الدول الغربية "راعية العولمة" لأزمة تهدّد وجودها، وحلّت محله القرصنة وإغلاق الحدود والامتناع عن تقديم المساعدات. ورصدنا كيف عزّزت أزمة كوفيد - 19 من تأثير القادة الشعبويين الذين طالبوا بمزيد من فرض سيادة الدولة الوطنية لبلدانهم، والحدّ من حرّيات الحركة والتنقل وفرض القوانين، والأوضح من ذلك أنّ كوفيد - 19 أعاد تشكيل الجغرافيا السياسية للدول، بحيث اتضحت المفارقات والتباينات بين المناطق القادرة على مواجهة انتشار الفيروس والمناطق الرخوة الهشّة.

لقد أظهرت لنا الجائحة عودة الدول الرأسمالية إلى أنظمة الحمائية الاقتصادية مع غيابٍ لمفردات التكامل والتعاون الأوروبية، وحلّت محلّها سياسات الحدود والقومية والأمن القومي، بدل سياسات الحدود المفتوحة. وبرزت أصواتٌ نخبوية داخل المجتمعات الغربية، لا تهتم إلا بمصالحها الضيقة، وكلها معطياتٌ تضع علامات استفهام على مستقبل الليبرالية التي ينادي بها العالم المعولم اليوم.

وحيث تبقى السيادة متأصلةً في الدولة الواحدة، فسنجد أن مفهوم التعاون الدولي سيظلّ يجابه عقباتٍ عديدة، وأن ثمّة تراجعا جرى رصده خلال الشهور القليلة الماضية لمفاهيم ونظريات العلاقات الدولية التي تبنتها المدرسة الليبرالية، مثل التعاون الدولي، الاعتماد المتبادل، دور المنظمات الدولية والشراكات العالمية، بينما رجّحت كفة مفاهيم المدرسة الواقعية، كالمصلحة الفردية والمكاسب النسبية. وهذا سيدفع إلى بروز آراء وطروحات ونقاشات لإعادة النظر في المفاهيم الدولية جرّاء تداعيات جائحة كوفيد - 19. وعليه؛ يتوقع أن تؤدي الجائحة إلى تشكّل "عولمة التباعد الدولي" القائمة، كما ذُكر أعلاه، على الاتجاه نحو الداخل، والتركيز على الاقتصاديات الوطنية، مع تعزيز أنماط الاقتصاد الافتراضي عبر الإنترنت والاتصال الرقمي.

ثمّة تراجع جرى رصده خلال الشهور القليلة الماضية لمفاهيم ونظريات العلاقات الدولية التي تبنتها المدرسة الليبرالية

وعلى الرغم من ذلك؛ لا يمكننا الحديث عن عهد جديد للدولة القومية، فالحقيقة أن الدولة لم تغب أصلا حتى يقال إنها عادت، ولكن الأصحّ أن ما جرى هو إعادة الاعتبار لبعض مظاهر السيادة التي همّشتها العولمة، فأزمة جائحة كورونا أعادت درجة الثقة بين المواطنين والدولة، وساعدت، بصورة أو بأخرى، على التفكير في العودة إلى الدولة الوطنية، في ظل تراجع نفوذ الليبرالية، وبدا واضحا أهمية وجود دولة الرعاية - الرفاهية الاجتماعية، والتي أثبتت أنها الأقدر على التعامل مع الأزمات المفصلية التي تهدّد بقاء الشعوب.

ما كشفته جائحة كورونا على هذا الصعيد هو عودة الدول والحكومات إلى التدخل بعمق وقوة في إدارة الشأن العام، من الصحة إلى الاقتصاد. وستكون لهذه اللحظة المرشّحة للامتداد الزمني تداعيات سياسية واقتصادية، ليس أقلها أن الدولة، في المجتمعات الشرق الأوروبية والآسيوية والمتوسطية، وعلى الرغم من غياب الديمقراطية وضعف حكم القانون، تظل الفاعل المجتمعي الأكثر قدرةً على مواجهة الأزمات الكبرى، وتقديم مظلات الأمان المطلوبة لتجاوز الأخطار المحدقة بالمواطنين، صحيا واقتصاديا.

بدأت نقاشاتٌ أنه عندما تمر أزمة كوفيد - 19 لا بدّ من إعادة النظر في المفاهيم الأساسية لسيادة الدول

وعلى الرغم مما يثار عن تعاطي الدول مع الجائحة، أي قدرتها على المواءمة بين متطلبات الحفاظ على حريات الأفراد (على الرغم من تتبع تحرّكات مواطنيها الذين يمكن أن يكونوا حاملين للفيروس إلكترونيا من دون موافقتهم)، إلا أنّ الظاهر هو تعزيز دور الرقابة للدولة الوطنية بدافع حماية الأمن القومي، والحفاظ على استقرار المجتمعات، جنبا إلى جنب مع الإشكالية المتعلقة بتغلغلها على المستوى الاقتصادي بشكل أكبر، وهو ما أكسب الدولة نفوذا في بسط سيادتها، والذي قد يكون من الصعوبة في ظل الجائحة أن تتخلّى عنه بسهولة، وهي التي وجدت ضالّتها بالاعتماد على نفسها في الضبط والربط، سيما في مجالات الصحة والغذاء، أو على الأقل أن تكون هذه القطاعات تحت أعينها ورعايتها، فالمجتمعات البشرية استعادت في مواجهتها المصيرية لهذه الجائحة، وعيا جماعيا بمركزية الدولة ملاذا لا غنى عنه لحمايتها وتأطير جهودها.

ومن هذا المنطلق، بدأت تظهر نقاشاتٌ تتحدث أنه عندما تمر أزمة كوفيد - 19 لا بدّ من إعادة النظر في المفاهيم الأساسية لسيادة الدول، والتفكير في كيفية إعادة بنائها بطريقةٍ تجعلها أكثر عدلا وفعالية.

3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.