عن "غيبة مي" لنجوى بركات
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
"غيبة مي" (دار الآداب، بيروت، 2025)، رواية غير مثقلة بالشخصيات، ولا تتوّه قارئها أو ترهقه، إنما يستمتع بها، وكأنه يصغي إلى حكايةٍ تفصيليةٍ طويلة بصوت خافت. رواية مكتوبة بوعي يشبه من يخوض لعبةً ويركب أزمنتها بحذر، ولكن من دون عياء، في الصفحة الأولى مثلاً، تظهر مي وهي ترى شبح امرأة غريبة في شقّتها، دلالةً على تهيؤات تقدّم العمر، ولكن هذه الإشارة العابرة أيضاً هيّأت الرواية لاستقبال الشخصيات التي ملأت وحدة مي، تلك التي ستنبثق إثر كل منعطف أو حركة من خلف ستار الزمن، ومهّدت أيضاً لظهور شخصية "هي"، بطلة الفصل الثاني من الرواية. إشارة عابرة، ولكنّها شكّلت تمهيداً واعياً لما سنراه في مقبل الصفحات، إذ ستمتلئ الشقّة العلوية بالحياة والأصوات "والزائرة التي رشح وجهُها عنوة من الماضي على ما أظن، لم تكن أكثر من ذرّة غبار أفلتت من مكنسة الذاكرة".
لا توجد غيبة بمعنى الفقدان المباشر للحسّ، وهنا تُحكم اللعبة خيوطها، إنما ذلك الحضور الكلّي للغياب. في قلب الحضور ينبثق الغياب ويراوح مكانه. لا يوجد زخم شخصياتٍ أيضاً، ليس سوى شخصيَّتَين ظاهرتَين، هما الستّ مي والحارس السوري يوسف، والقط إذا اعتبرناه شخصيةً، والخادمة السريلانكية التي ظهرت في منتصف الرواية، بيد أن هناك غائبين كُثراً رغم الظهور السافر لأفعالهما، ومن أبرز هؤلاء التوأم، ابنا مي، اللذان سافرا إلى أميركا، ولم تعد أمّهما تتواصل معهما إلّا عبر الأثير، والأوامر والنواهي المضمرة التي تتلقّاها من الحارس يوسف أو من الطبيب الذي يظهر أحياناً إثر كل طارئ.
جاء خطاب الرواية بضمير المتكلّم، الذي يفسح مساحةً واسعةً للاعتراف ومخاطبة الذات بحرية والتدفّق المنسرح للخوالج، وفي الأخير ترجيح ما كان ملتبساً. مثلاً، طوال فترة الرواية كنّا نظنّ أن القطّ جاء إلى شقّة مي صدفةً، ولم تتقبله بسهولة، نكتشف في الفصل الأخير المتعلّق باعتراف الحارس السوري يوسف، أنه هو من وضعه لها عند باب شقّتها لكي يؤنس وحدتها. وهذا ضمن خيوط اللعبة السردية، فلا تكشف الرواية خيوط حيلتها دفعةً واحدةً، إنما يحدُث ذلك على جرعات، من دون إرهاقٍ للقارئ أو تشويش لذهنه، وذلك لأن هذه اللعبة لم تكن مقحمةً، إنما تسري طبيعياً مع سريان السرد وتدفّقه الهادئ.
بُنيت الرواية على أجزاء ثلاثة: في الأول الذي يحمل عنوان "مي" (يحتلّ الصفحات الأوفر من الرواية) تتمظهر حياة البطلة في حيّزها الضيّق (شقّة في طابق علوي)، إذ يعيش القارئ أدقّ تفاصيل هذه العزلة الثمانينية، وكل حركة في الشقة تعني انعطافاً يثير الذكرى ويدعو غائبين إلى الزيارة. إلى أن تظهر العاملة السريلانكية لتشارك مي تفاصيل عزلتها، فتقوم هذه الشابّة السمراء الدؤوبة على تحميمها الصعب في سنّ صار يتساقط فيه كل شيء حتّى الذاكرة. الجزء الثاني حين نعيش مع "هي"، وكأنّنا إزاء شطرٍ غامضٍ من حياة مي لا أحد يتذكّره بمن فيهم صاحبته، حين كانت الفتاة عاشقة مسرحٍ أدّى بها الحال إلى قصّة حبّ قاسية، وعذاب سبَّبه مَن لا يُقدّرها ويستغلّها ببشاعة، حتّى استطاعت أن تتخلّص منه، لكن ليس قبل أن تهوي إلى حفرة "العصفورية"، وهناك تكافئ الأقدار صبرها بطبيبٍ شابّ يتفهّم حالتها، ويقع في حبّها ويتزوجها. الجزء الثالث يحتله العسّاس يوسف من طريق اعترافاته الحميمة. بدوره يقلب في هذه الصفحات الأخيرة ما كان راسخاً يقيناً في الصفحات الأولى، وهنا تنكشف خيوط اللعبة أو المسرحية التي عاش القارئ عذوبتها لغةً، وسبراً للنفسيات طوال 223 صفحة.
وما يميّز هذه الرواية أيضاً اللغة، أو بيت الوجود، كما يسمّيها هيدغر، ولكنّها ليست لغةً توصيليةً مباشرةً، هنا اللغة مكثّفة إشارية، على شيء من العذوبة، بسبب الخبرة الطويلة للروائيّة نجوى بركات. هناك أيضاً الفهم النفسي (المضبوط) للشخصية ونوازعها مع الوحدة، "فالعجائز بصفة عامة لا يحبّون الجديد، بل ما تلف مثلهم واعتادوه... ماذا تفعل بأيام يتوعّدك الموت في نهايتها، الوقت إذ يكون قابلاً للاحتساب، لا يعود وقتاً، يصير عدّاداً. شرط الحياة الأول ألّا يحتسب الوقت، وإن يكن في النهاية محتسباً".
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية