عن ظاهرة الانتحار في تونس
(نجيب بلخوجة)
عرفت تونس في يناير/ كانون الثاني الماضي (2025) بدايةً لافتةً لحوادث الانتحار، فسُجّلت 12 محاولة انتحار، وهو رقم مثير للقلق، وكانت غالبيتها بين طلاب المدارس، والأعداد تتصاعد بالنظر إلى الوتيرة العالية لحوادث الانتحار في السنوات الماضية. وبحسب التقرير الصادر عن المرصد الاجتماعي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تبيّن أنه في عام 2024 (وبالتحديد بين 4 يناير و30 ديسمبر/ كانون الأول) سجّل المرصد 133 حالة انتحار، توزّعت بين 101 من الذكور و32 من الإناث. ومن خلال البحث المُنجز في مصلحة الطبّ الشرعي في تونس، تُعدّ حالات الانتحار شنقاً الأكثر شيوعاً، وتمثّل 45.7% من الحالات مع هيمنة الذكور. وفي المرتبة الثانية يأتي تناول المواد السامة (21.7%)، ويمثّلها بالدرجة الأولى المنتجات الزراعية والأدوية، فيما يمثّل الانتحار حرقاً 11.7% من الحالات، يليه الرمي من النافذة (7.5%)، ثمّ الغرق (6.3%)، وتمثّل حالات الانتحار بالسلاح الناري 2.4%.
يُعدّ الانتحار لغزاً لعامّة الناس، حتى مرتكبيه، لأن الموت الطوعي هو ممّا يناقض الطبيعة السوية للإنسان، ولا يمكن أن يحدث إلا لأسباب قاهرة. فالمنتحر من خلال فعله يطرح أسئلةً عن المجتمع، لأنه (سواء كان خفياً أو صريحاً)، يكشف زيف الروابط، ولهذا يصنّف فعلاً مرفوضاً، ونادراً ما يكون في محلّ ثناء، إلا في حالات الانتحار الإيثاري، التي يضحّي فيها الفرد من أجل قيم المجموعة.
وإذا تتبّعنا حالات الانتحار الحاصلة في تونس، يمكن النظر إليها من وجهة نظر مزدوجة، فهي نتيجة اضطرابات نفسية، وفي الوقت ذاته مرتبطة باختلال التوازن الجماعي الناجم عن أسباب اجتماعية. وفي حالات الانتحار التي تشمل طلبة المدارس، يمكن أن نحدّد جملةً من العوامل الرئيسة منها الضغوط الأكاديمية والتوقّعات الاجتماعية والأسرية والعزلة الاجتماعية، فغالباً ما يشعر الشباب بعدم الفهم، ويقعون تحت وطأة ضغوط هائلة لتحقيق النجاح، ممّا يؤدّي بهم إلى الشعور بالعجز واليأس. وتلعب شبكات التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في هذه القضية، إذ تساهم في تضخيم مشاعر الوحدة والرفض والقلق، خاصّة بسبب المظهر والتوقّعات غير الواقعية، التي ينقلونها في مفارقة غريبة، إذ بقدر ما تسهم هذه الشبكات في التعارف بين الذوات على نحو افتراضي، بقدر ما ترسّخ الوحدة وتسوّق في أحيان كثيرة صورةً غير حقيقية لروّادها، وهو ما يؤثّر سلباً في البنية النفسية لدى المراهقين وطلبة المدارس خاصّة. وعلاوة على ذلك، يظلّ الافتقار إلى الحوار حول الصحّة النفسية يشكّل عقبةً رئيسة، فالأفكار المسبقة، التي تخلط بين الأزمات النفسية والمفهوم الشعبي للجنون تمنع كثيراً من المراهقين من طلب المساعدة والتعامل مع المشكلات النفسية باعتبارها مشكلاتٍ قابلةً للحلّ.
الوقاية من تصاعد حالات الانتحار في تونس تتطلّب عملاً جماعياً ونهجاً شاملاً للصحّة النفسية
في المقابل، غالبية حالات الانتحار لدى الكهول تندرج ضمن حالات السخط الاجتماعي، التي أخذت منحىً واضحاً من خلال أسلوب الانتحار حرقاً، وبشكل دعائي أمام الناس، لإعلان حالة من الرفض للوضع الاجتماعي، سواء كان المتعلّق بالفقر والبطالة أم رفضاً لحالة التصنيف الاجتماعي التي يعانيها الفرد، وتجعله عرضةً للاضطهاد بسبب انتمائه الطبقي.
منذ أكثر من مائة عام، أظهر عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم أن عدد حالات الانتحار في مجتمع ما تُعدّ مؤشّراً على ارتفاع معدّل التعاسة. وانطلاقاً من دور التنظيم الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، فإن السخط هو مفهوم يسمح لنا بفهم أسباب تصاعد حالات الانتحار في مرحلة تاريخية ما، إذ تؤدّي الأزمات الاقتصادية على سبيل المثال إلى تفاقم السخط، بقدر ما تؤدّي إلى مزيد تفكّك الروابط المجتمعية، لأنها تعطّل التوازن بين التوقّعات والوسائل. وفي الواقع، يؤدّي إضعاف المنظومة القيمية، وعدم اليقين بشأن المستقبل، إلى حالة من السخط الفردي والنقمة على المجتمع، ممّا يزيد من حالات الانتحار. ولهذا كان من الضروري في حالة عدم إمكانية إزالة أسباب السخط، ومن أجل منع ردّة الفعل على السخط الفردي من الوقوع في الفعل الانتحاري، من الضروري تعزيز حضور القيم المجتمعية لدى الأفراد، أي إنّه كلّما كانت عضوية الفرد في المؤسّسات الوقائية (الأسرة، النقابة، الجمعية... إلخ) أقوى وأكثر تنوّعاً، قلّ احتمال أن يؤدّي السخط الفردي إلى فعل انتحاري، أو إلى سلوك مُعادٍ للمجتمع.
الوقاية من تصاعد حالات الانتحار في تونس تتطلّب عملاً جماعياً ونهجاً شاملاً للصحّة النفسية. وإن جهود التوعية، وإتاحة الرعاية النفسية، وتشجيع الحوار الأسري من جهة، ونشر قيم التضامن والتآزر الاجتماعي من جهة أخرى، بإمكانها أن تساعد في خفض أعداد المنتحرين، وإن كان يصعب إلغاء الظاهرة كلّياً، لأنها ببساطة مرتبطة بطبيعة الاجتماع الإنساني، ولا يمكن فصلها عنه.