عن طبيعة "التطبيع" وسلام الحرب

عن طبيعة "التطبيع" وسلام الحرب

01 نوفمبر 2020
+ الخط -

من المهم ونحن نتابع مستجدات التهافت على السجود والركوع في حضرة العدو المبين، طلباً للنصر على الإخوة والشركاء في الوطن، أن نسمي الأسماء بأسمائها في البداية. ذلك أن التلاعب بالألفاظ من أول أبواب المهالك، وهو مثل رسم الخرائط المزيفة التي يضرب من يستهدي بها في عماية التيه، فتسمية احتضانك قاتل أخيك "تطبيعاً"، ودم القتيل يقطر من مديته التي يمسكها بيمناه وهو يصافحك بيسراه، هي لعمري من شر الضلالات، ومما وصفه الجبرتي، رحمه الله، بانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع. كذلك إن ما يسميه بعضهم سلاماً أو صلحاً مع عدوٍ لم يضع سلاحه هو من الإفك المبين، فقد شهدت المنطقة أشرس حروبها بعد كل سلامٍ من هذا النوع. فبمجرد انخراط مصر في مفاوضاتها السرية مع الدولة العبرية، عقب زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1977، وقع أول اجتياح صهيوني للبنان في مارس/ آذار 1978. واستمرت المحادثات برغم ذاك الاجتياح، حيث أدت إلى عقد توافقات كامب ديفيد في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه. أعقب ذلك قرار ضم الجولان في عام 1981، ثم شن الحرب الأكبر على لبنان في صيف عام 1982. وقد صرّح قادة العدو وقتها إن هذه الحروب كانت اختباراً لـ "السلام" مع مصر التي أصبحت تؤمّن ظهرهم، وهم يوجهون أسلحتهم إلى سورية ولبنان، ولا ينسون العراق من شيء من العطاء. وشهدت الفترة نفسها توسع الاستيطان وتكثيفه وسلب الأراضي الفلسطينية.

في تلك الفترة، وجّه العراق أيضاً مدافعه تجاه الشرق لضرب جارته إيران، بتحريضٍ من جيرانٍ وأباعد سرعان ما تخلوا عنه، فوجه المدافع نفسها تجاههم. وبسبب حروب الأشقاء هذه، شهدنا الموجة الثانية من الغزل مع العدو الأصل، فقد استعان العرب بأميركا على العراق، التي اشترطت بدورها السلام مع إسرائيل ثمناً، وعقدت حفل زواج جماعي في جنيف ثم مدريد، لم يغب عنه من الأعاريب غائب. وما لبثت منظمة التحرير الفلسطينية أن كسرت المحرّمات، فعقدت صفقة "سلام الشجعان" مع العدو الذي طالبها بدورها بمهرٍ من دماء الأشقاء. شهدنا عندها تحول مقاتلي التحرير إلى شرطة للاحتلال، بنادقهم موجهة إلى "حماس" وغيرها من المقاتلين، وسجونها مفتوحة لهم. ولكن هذا لم ينقذ المنظمة من غضبة الحلفاء الجدد. واستمرت الغزوات تجاه غزة ولبنان، حتى تبرّع "قادة" جدد وعدوا بأنهم سيكونون رحماء أكثر بعدو، أشداء أكثر على الأشقاء، وهاهم يتذوقون العلقم نفسه.

 لا يحتاج صاحب عقل إلى كثير تنبيهٍ ليدرك أن ما يسمى تطبيعاً أو سلاماً مع العدو هو، في حقيقته، انضمام للحرب ضد الأمة

ما حدث إذن لم يكن سلاماً بأي معنى للكلمة، وإنما هو استمرار للحرب بشراسةٍ أكبر، وبصورة منهجية، وفي حماية أطراف عربية، وللأسف فلسطينية أيضاً. الاختلاف في تغيير بعض الأطراف مواقعهم في المعركة، فبعد أن كانت مصر في قيادة المعسكر العربي، أصبحت في الذيل من النظام الصهيوني، تدعمه في حروبه ضد بقية العرب، أقلّه بالتشجيع. فقد شن الإعلام المصري حملة شرسة لشيطنة القيادة الفلسطينية، وتشويه صورة منظمة التحرير، وفتح نيرانه على الدول العربية، حتى الواقفة منها على "الحياد". أما عن التعاون المخابراتي والأمني مع عدو الأمس، فحدّث ولا حرج. 

ولا بد أن نذكر هنا أن من قاد وافتتح كان الدول العربية المتنافسة على مكاسب من زيادة الشعبية والدور القيادي في المنطقة، أو بالتوسع وضم أجزاء من فلسطين سرعان ما فرطت فيها، فقد أضاع الأردن الضفة الغربية، ومصر قطاع غزة. في حرب 1967. وبعد أن تركت تلك الدول نصف عرب فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي في عام 1948، عادت فسلّمت بقية أهل فلسطين في غزة والضفة للاحتلال. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين المشرّدين والأسرى تُركوا عزّلاً، لأن الدول التي مارست الوصاية، وحمّلت نفسها الأمانة، لم تدعمهم أو تدرّبهم، إلا أن هذه الدول نفسها عمدت إلى تحميل أهل فلسطين من أسرى ومشرّدين مهمة تحرير فلسطين التي سلموها للعدو. حمل الفلسطينيون السلاح، لاستنقاذ ما ضيعته قيادات العرب، وستر عورة ما سميت بالجيوش العربية التي ثبت أن المدنيين أقدر على القتال منها. ومع ذلك، لم تسلم من أذى الأشقاء، فقد كانت جيوشهم المزعومة تضرب المقاومة من الخلف، وتتآمر مع العدو ضدها. وقد أحدث هذا أغرب أسطورةٍ (بتعاون للأسف من القيادات الفلسطينية) في أن ما سميت "القضية الفلسطينية" هي مسؤولية أهل فلسطين، وهم بين مشرّد في مخيمات في كل الدول العربية وأسرى في يد العدو في الداخل.

إسرائيل تريد من العرب أن يركعوا بين يديها حتى يشرعوا لها ما نهبته من أراضٍ فلسطينية، وما سفكته من دماء ومن شرّدتهم من سكان

لقد أصبحنا في عصرٍ تتمترس فيه جيوش العرب الأشاوس خلف الأسرى العزّل، والنساء والأطفال في المعسكرات. يتكرّر الأمر حتى في داخل فلسطين المحتلة للأسف، حيث أصبح المعتقلون في سجون الاحتلال يدافعون عمّن هم في الخارج بالشيء الوحيد الذي يملكون، وهو الموت جوعاً، بينما بقية العرب يصفقون لهذه البطولة التي لم يبق لأمةٍ يقارب عددها النصف مليار من الأعاريب، وضعفيهم من أمة الإسلام، وكثيرين من مناصريهم من غيرهم، سلاح غيرها. وقد أصبح غاية ما يطلب أسرى فلسطين في السجون وخارجها أن تتوقف جيوش العرب عن التنكيل بهم، أو شتمهم والإساء إليهم، بدعوى أن الأسرى العزّل هم المكلفون بتحرير الأرض. أما أصحاب أحدث الطائرات والصواريخ، فغاية جهادهم هو استضافة الصهاينة في قصورهم ويخوتهم، حيث يسخرون ممن صمد وقاتل.

هذا مع العلم أن العرب لم يغتنوا ويصبح لهم شأن في العالم إلا حينما انخرطوا في الصراع مع إسرائيل، فاستخدموا سلاح النفط الذي لم يكن قبل ذلك سلاحاً. وبالقدر نفسه، فإن إسرائيل لم تخطب ود المطبّعين إلا لوجود مقاومةٍ تتصدّى لها. ولعل أكبر ضربة توجهها المقاومة لو شاءت لعرب التطبيع هو أن تضع سلاحها. عندها لن تعير إسرائيل هؤلاء المهرولين التفاتة. وكما قال أحد الأصدقاء، مازحاً، إن إسرائيل قد تضع، بعد قليل، شروطاً على التطبيع، وتعقد مزاداً ومناقصاتٍ لمن يقدم تنازلات أكثر. 

ما حدث لم يكن سلاماً بأي معنى للكلمة، وإنما هو استمرار للحرب بشراسةٍ أكبر، وبصورة منهجية، وفي حماية أطراف عربية

لا يحتاج صاحب عقل إلى كثير تنبيهٍ ليدرك أن ما يسمى تطبيعاً أو سلاماً مع العدو هو، في حقيقته، انضمام للحرب ضد الأمة. إسرائيل تريد من العرب أن يركعوا بين يديها حتى يشرعوا لها ما نهبته من أراضٍ فلسطينية، وما سفكته من دماء ومن شرّدتهم من سكان، ثم يعينوها على ضم مزيد من الأراضي، وإخراج من بقوا من أهل فلسطين من ديارهم. فهم في حقيقة الأمر، محاربون للأمة، وأعداء لله ورسوله. ذلك أنه لو حتى كانت الجهة التي ترتكب ما يرتكبه الصهاينة من جرائم في حق أهل البلاد، من قتل وتشريد ومصادرة للأموال والأراضي، وتنكيل، من المؤمنين الصائمين القائمين، لما حلّ لأي من البشر أن يعاونهم على ظلمهم. أما وكيف وهم يحاربون الناس في دينهم ودنياهم، ويريدون تحويل الوطن العربي كله إلى مستوطنات، وأهله إلى مستعبدين؟ لا يحتاج عاقلٌ أيضاً إلى تذكير بأن كل الشرائع الأرضية والسماوية تحرّم ممالأة عدو غاصب، لم يرتدع عن عدوانه، بل هو يتمادى فيه، متقوياً بسند من "طبّع" معه، ويقول لكل من يسمع: انظروا إلى كل هؤلاء العرب الذين يقفون معنا، ويدعموننا في غيّنا وضلالنا، ما يؤكد أننا على حق. 

أقل ما يمكن أن يقال عمّا يسمّى التطبيع، إذن، إنه شهادة زور، ودعم للظالمين ونصرة لهم. ومرتكبوه ممن يوالون العدو قائلين: لئن قوتلتم لننصركم. وشهادة الله على هؤلاء بالكذب والجبن معروفة، ووعيده لهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار مسطرة في صحيح التنزيل. وقد لا يسلم من مصيرهم من شايعهم، ورضي عن هذه الخيانة، وقبل أن يشاطرهم حرام كسبهم من إتيانها. فمن أكل من قمح نتيناهو إنما يأكلون في بطونهم ناراً، لأنه حرامٌ من حرامٍ من حرام.

لو أن الصهاينة كانوا قد تابوا إلى الله من جرائمهم، وقرّروا الاكتفاء بما نهبوه من الأرض، وجاءوا للعرب قائلين: لقد قرّرنا أن نجنح للسلم، ونتوقف عن تشريد أهل فلسطين وسومهم الخسف، ونمسك عن نهب الأرض. ونجتهد في تعويض ضحايانا، فتعالوا معشر العرب لمعاونتنا في هذا الأمر، لربما يكون للمطبعين عذرٌ يظل ذنباً. ولكنه على الأقل أقرب إلى التصديق. أما ونحن في عهد أسوأ حكومة إسرائيلية من حيث توجهاتها الفاشية، وسياستها المعلنة في نهب كل أراضي فلسطين وتحويل كل من بقي عليها إلى مشرّدين أو مجموعة من "البدون". (الحمد لله أن إسرائيل "استعربت")، فما هو العذر - الذنب؟

822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي