عن ضرورة تمكين الثقة بين القيادة الجديدة والشعب السوري

19 فبراير 2025

الرئيس السوري أحمد الشرع في مؤتمر صحفي في دمشق (11/1/2025 الأناضول)

+ الخط -

منذ سقوط النظام الأسدي في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الفائت، واستلام قيادة عملية ردع العدوان إدارة المرحلة، ومن بعدها مؤتمر الفصائل ومبايعة أحمد الشرع رئيساً مؤقتاً للبلاد، والشارع السوري لا يهدأ، إن في الواقع أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. بل يبدو، بعد انتهاء فورة المشاعر المحتفلة بسقوط الأسد، والخلاص من ديكتاتورية جثمت على صدور السوريين إلى حدّ أنهم لم يتخيلوا أنها يمكن أن تنهار، يبدو وكأن السوريين يلاحقون أداء الجهة الجديدة التي اعتلت سدّة الرئاسة والقيادة، بين غير مصدقين، أو مذهولين، أو حذرين ومتوجّسين، خاصة أن ماضي هيئة تحرير الشام وأداءها منذ أن كان اسمها جبهة النصرة، لم يغادرا ذاكرة السوريين بعد، على الرغم من الحقيقة الساطعة التي عليهم قبولها والتعامل معها، وهي أن لا مجال للاختيار بين هذا الواقع وواقع آخر، فالقيادة الجديدة صارت حقيقة ماثلة أمام الشعب السوري، علاوة على التحولات المتسارعة التي طرأت على القائد الجديد، والتي تقرّبه أكثر مما اعتاد عليه السوريون، لناحية مظهره، وصار خطابه أكثر اعتدالاً وهدوءاً، موجهاً إلى كل شرائح الشعب، على غير خطابه السابق منذ تأسيس جبهة النصرة، عندما كان إقصائيّاً وطائفيّاً أيضاً، تعزّزه مقاطع الفيديو والمقابلات السابقة معه، عندما كان اسمه أبو محمد الجولاني، هذه المقاطع التي يلجأ إليها المتشكّكون للبرهنة على شرعية هواجسهم، والتشكيك بكل ما يصدر عن الإدارة الجديدة. بالإضافة إلى ما ظهر عليه من اشتغال على النفس وتثقيفها، والاطلاع على تجارب شعوب ودول مرّت بأزمات عبر التاريخ، واستطاعت أن تنهض وترسم تجربتها الخاصة، بالإضافة إلى ما يبدو عليه من أداء سياسي براغماتي.

يعمل هذا التغير المترافق مع عمل حثيث على الصعيد الخارجي بشكل خاص، وهو ما تحتاج إليه سورية اليوم كي تنهض، فالعقوبات المفروضة عليها بسبب نظام الأسد وجرائمه تعرقل أي تعاون أو نيات للاستثمار في سورية ومساعدتها في إعادة إحياء اقتصادها، هذا التغير ربما جدير بالسوريين أن يأخذوه على محمل الجد، وأن يعطوا الفريق العامل وقتاً بانتظار أن تحصد النتائج.

هشاشة السلم الأهلي، تجعل من السوريين متلهفين للوصول إلى مستقر يمنحهم الثقة والثبات

لكن هشاشة الوضع السوري الحالي في كل جوانبه، وخاصة هشاشة السلم الأهلي، تجعل من السوريين متلهفين للوصول إلى مستقر يمنحهم الثقة والثبات، وخائفين على أحوالهم بسبب الهشاشة التي ذكرناها، وبالتالي فإن عامل الوقت يصبح مرفوضًا في هذه الحالة.

من الأهمية بمكان تعزيز ثقة كل شرائح الشعب بالإدارة الجديدة، خاصة وأن الثقة بالحكومات والنظام السياسي مشروخة ومتهالكة بسبب ممارسات النظام على مدى سنوات حكمه القمعي للشعب، ما أدى إلى انعدام الثقة بتمثلات السلطة، حتى لو كانت على مستوى رئيس مخفر شرطة مدنية. لذلك من المنطقي أن تكون هناك مبادرات من السلطة تكون بمنزلة حالة تأسيسية لهذه الثقة، ربما تكون الحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها قريبًا عتبة دخول في هذه المرحلة الجديدة، بما تحمل من ملامح تنسجم مع تطلعات الشعب السوري، وتمثل شرائحه المتنوعة مجتمعة حول هدف تحقيق تطلعاته.

ومن المنطقي أيضاً أن تراجع الحكومة الحالية أداءها خلال الشهرين الماضيين، في محاولة تقويم أدائها ومعرفة النقاط التي أحدثت هذا الضجيج في الشارع، والدافع خلف الأصوات المستهجنة والرافضة، وهي أمور تأسيسية بالنسبة إلى المجتمع السوري وضرورية لاستقراره مستقبلًا، فبعد كتابة دستور للبلاد يحكم المستقبل، يصبح الرجوع عن بعض نصوصه أو تعديلها أمراً صعباً واستمراره بما قد يحمل من نقاط خلافية قد يؤدي إلى هدم ما تم بناؤه.

تقع على عاتق القيادة الجديدة مسؤولية ثقيلة، وتحمل إرثاً أثقل، من تركات نظام أوصل البلاد إلى الخراب

هذا الفوران المستمر في الشارع السوري، والانتقادات ومظاهر عدم الثقة التي يبديها قسم من الشعب، يمكن فهمها بما هي ظاهرة طبيعية بعد عقود من القمع وكم الأفواه وتلقي الأوامر والامتثال، من دون إشراك الشعب في أي قرار تتخذه الحكومة. لقد صادر النظام القمعي ألسنة الناس وإراداتهم، وعمل على فبركة صور له ولرموزه، اعتاد عليها السوريون إلى حدّ أنها صارت طبيعية وأي اختلاف عنها غير مألوف ومن الصعب قبوله، أو يحدث إرباكًا لدى العامة. وبعد هذه العقود من ممارسة السلطة على الشعب بآليات من هذا النوع وبهذه الطريقة، وما تركت خلفها من رواسب في قاع النفوس والذاكرة، من المنصف أن نفهم ردّات فعل الشعب حين يكون مبالغًا فيها في بعض الجوانب، تجاه قرارات وممارسات الإدارة الحالية، ومن واجب الإدارة أن تصغي، وتتفهّم أيضًا، وهي فعلت منذ استلامها السلطة، إذ تراجعت عن بعض القرارات التي أصدرتها بعد رفض الشعب لها.

لكن، غالباً ما يجلب التغيير معه القلق من الغد، وهذا مألوف، حتى لو كان بالنسبة إلى الحالة السورية مطلباً شعبيّاً دفع ثمنه الشعب أثماناً تفوق الخيال، لكن الحالة الجديدة بعد سقوط النظام فرضت إيقاعاً جديداً، فظهرت أولويات على السطح، الوضع المعيشي للسكان هو الشاغل الرئيس فيها، وفرضت مخاوف أيضًا، فالشعب السوري المتعدد لناحية الأديان والطوائف والقوميات، هو متعدد الثقافات أيضًا، ولقد رأت بعض المجموعات منه أن هناك اعتداء على هويتها ومحاصرة لحرياتها، وأما بالنسبة للحالة الراهنة فيمكن تصنيفها بأنها مرحلة تغيب عنها الدولة بمعناها الدقيق، ما دام أن الدستور معطل والأحزاب قد حلت، فلا حراك سياسيا في المجتمع، والنقابات أيضًا، وكثير من المؤسسات في حالة شلل، كذلك فإن المجتمع السوري تتمكن منه حالة ما قبل الدولة، أو حالة الهويات والانتماءات الضيقة، تجاه هذا الشعور بالإقصاء، خاصة في انعدام وجود جهات تمثيلية، إن كانت برلمانية أو مجالس أو مجتمعا مدنيا، لذلك يشعر كثير من السوريين بالقلق والخوف من الغد.

تمكين الثقة أمر مطلوب من أجل البناء السليم والتقليل من الأخطار المهددة بإطاحة ما تم إنجازه إلى اليوم، ودخول سورية في فوضى مدمّرة

تقع على عاتق القيادة الجديدة مسؤولية ثقيلة، وتحمل إرثاً أثقل، من تركات نظام أوصل البلاد إلى الخراب، وهو، وإن فرّ خارج البلاد بجميع أدواته الرئيسة، فإن لديه بقايا وفلولًا تلعب بها أياد خارجية تسعى إلى عرقلة أداء القيادة الجديدة، وتهدد السلم الأهلي مما يزيد من أزمة الثقة. هذه البقايا تعيش في أوساط ومناطق بعض السوريين، وهي، وإن كانت مرفوضة غالبًا من قبل هذه الأوساط او البيئات، إلّا أن الحالات التي تهدد السلم الأهلي، وغياب تطبيق العدالة الانتقالية، كما يأمل السوريون، وتهميش بعض المجموعات من الشعب، سواء عن قصد أو من دون قصد، لكنها تهدّد الحالة الأمنية مثل قنابل موقوتة، تقع مسؤولية تفكيكها على الحكومة، تهدد أمن المجتمع، إن معالجة التجاوزات والحالات الانتقامية التي تمارس بين الحين والأخر بشكل مسؤول وعادل، تمنح القيادة قوة إضافية وتجذب السوريين إلى جانبها. في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل حقيقة أن يكون لهذه الإدارة الجديدة تحديات ومشكلات كبيرة، ربما لا يعرفها الشعب، أو لا تظهر إلى العلن، لكن تعزيز الثقة بينها وبين جميع شرائح الشعب يزيد من قوتها وثباتها وقدرتها على حل مشكلاتها وتجاوز عقباتها، فعندما تستمد السلطة قوتها من الشعب تستطيع أن تتمكن وتزيد من قدرتها على النهوض بالدولة وبناء المجتمع. هذه الإدارة، وعلى الرغم من محاولة رئيسها ووزير خارجيته تصدير صورة براغماتية تنسجم مع تطلعات الشعب، وتتوافق مع الإطار الذي تضعه الدول القوية التي تحتاج إليها في رفع العقوبات من أجل الانطلاق في عملية إعادة البناء، إلّا أنها ما زالت تتقدم ببطء في الطريق الشائك الذي تسير فيه، ولم تكسب ثقة الشعب إلى الحد الذي يمنحها دفعاً إلى الأمام. لذلك من المهم بمكان العمل على إعادة تمكين الثقة بينها وبين جميع فئات الشعب السوري، فمن دون هذه الثقة سوف يُهدَر كثير من الوقت والجهد في طريق شاقة وطويلة، طريق إعادة بناء الدولة وجبر التصدعات التي يعاني منها المجتمع. وعلى هذا الأساس فإن الاستماع إلى أصوات الشعب، وأخذ انتقاداته مأخذ الجد ضروري في هذه المرحلة، ربما تعلو أصوات تطالب بأن تُمنح الحكومة بعضاً من الوقت لأن ما تم الاشتغال عليه على مدى أكثر من نصف قرن، لا يمكن تفكيكه في شهور قليلة. ومع الأسف، ليس الوقت في صالح سورية، دولة وشعبًا، فهشاشة الوضع بلغت حدّاً لا يمكن معه الانتظار لسنوات كي يبدأ البناء السليم، الشعب بحاجة إلى الطمأنينة والشعور بالثقة مع قادته الجدد، وهو ينتظر أن تؤخذ احتجاجاته تجاه بعض القضايا بعين الاهتمام من القيادة وملاحظة هواجس بعض الشرائح وتطلعاتها بالنسبة إلى مستقبل سورية والعمل فعليًا على إنهائها، والاهتمام بتعددية المجتمع السوري وضمان حماية هذه التعدّدية، ما يمنحها دافعاً إيجابيّاً، خاصة إذا فسح لها المجال للتشاركية والإسهام في صنع القرارات. تمكين الثقة أمر مطلوب من أجل البناء السليم والتقليل من الأخطار المهددة بإطاحة ما تم إنجازه، ودخول البلاد في فوضى مدمّرة.

سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
سوسن جميل حسن