عن زيارة قيس سعيّد المحتملة لروسيا

عن زيارة قيس سعيّد المحتملة لروسيا

02 مايو 2022
+ الخط -

نقلت، أخيراً، مصادر إعلامية روسية عن سفير تونس في روسيا، طارق بن سالم، قوله إنّ استعدادات تجري حثيثة لزيارة قريبة يؤديها الرئيس قيس سعيد لهذا البلد، ليكون في ضيافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. للوهلة الأولى، لا شيء يثير الانتباه أو الاستغراب، غير أنّ الأمر يحتاج إلى استحضار السياق الذي تجري فيه الزيارة وتفاصيل أخرى قد تجعل من قراءة هذا الحدث مدخلاً لفهم ما يمكن أن يحصل في قادم الأيام، فضلاً عن تشريح الطبقات العميقة لتصورات الرئيس.
منذ انقلاب 25 يوليو/تموز 2021 في تونس، ظلت قوى غربية عديدة تناوئ الرئيس سعيّد. كانت عشرات المواقف لمسؤولين من مختلف الرتب، سواء في الولايات المتحدة، أو دول الاتحاد الأوروبي، تعبّر عموماً عن "قلق" يساورها تجاه ما أقدم عليه الرئيس. لقد صيغت هذه المواقف بكثير من اللطف اللغوي الدبلوماسي المعتاد، فضلاً عن تذبذبها إلى حد أنّها كانت أحياناً تثير حفيظة المعارضة، غير أنّ مصادر عديدة تفيد أيضاً بأنّ مواقف الدول الغربية، حتى لو كانت "مائعة" قد أخذت بالاعتبار ثلاثة عوامل أساسية، تدور عموماً حول ضعف المعارضة المناهضة للانقلاب، وخصوصاً في الأسابيع الأولى منه، والشعبية التي يحظى بها سعيّد في أوساط مهمة، وأخيراً حساسية التونسيين تجاه التدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي، وخصوصاً في ظل تأجيج الرئيس سعيّد خطاب الخيانة والعمالة الواصم كلّ مخالفيه.

استدعى سعيّد سفير الولايات المتحدة الذي انتهت مهمته أخيراً، وعبّر له عن استياء تونس من "التدخل السافر" في الشأن الوطني

كانت ردة فعل سعيّد لا تخلو من مناورات، إذ مباشرةً، بعد صدور موقف الولايات المتحدة من الانقلاب، التقى ممثلاً رفيعاً عن شركة صينية رائدة في صناعة التكنولوجيا الرقمية، وحظي ذلك بتغطية واسعة من الإعلام تحت لافتة البحث عن شراكات جديدة والقطع التدريجي مع الارتباط الوثيق بالسوق الغربية عموماً. كذلك صعّد الرئيس من ردود أفعاله، إذ لأول مرّة على المستوى الدبلوماسي بين البلدين، استدعى سفير الولايات المتحدة الذي انتهت مهمته أخيراً، وعبّر له عن استياء تونس من "هذا التدخل السافر" في الشأن الوطني. وتزامن ذلك مع حملة إلكترونية بلغت حد التهديد للسفارة الأميركية، قامت بها مواقع محسوبة على "الحشد الشعبي" الموالي للرئيس، ما جعل السلطات التونسية تتّخذ جملة من الإجراءات، خوفاً من تورّط لا تحمد عقباه، وخصوصاً أنّ السفارة كانت موضع هجوم سنة 2012 من جماعات محسوبة على تيارات سلفية متشدّدة.
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كان الجميع يتابع باهتمام ما قد يكون عليه الموقف التونسي، خصوصاً عندما جرى التصويت يوم 2 مارس/ آذار الماضي على ذلك في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان اختباراً حقيقياً للدبلوماسية التونسية، وقد صوّتت تونس لإدانة التدخل الروسي. وليست معلومة بعد خلفية هذا التصويت، خصوصاً أنّه دُعم، قبل أيام، بحضور وفد عسكري تونسي رفيع ترأسّه وزير الدفاع، عماد مميش، اجتماعاً هاماً، دعا إليه حلف شمال الأطلسي (الناتو)، من أجل حشد الدعمين، المالي والعسكري، لمواجهة العدوان الروسي على أوكرانيا، وقد ضمّ هذا الاجتماع مسؤولين كباراً من 20 دولة عضواً في الحلف، ودول أخرى، منها إسرائيل.

يعوّل الرئيس على "الابتزاز السياسي" حتى يبدو داخلياً بطلاً وطنياً متمسّكاً بسيادة بلاده، رافضاً إملاءات الخارج

لا تخرج هذه التحولات اللافتة أخيراً في الموقف التونسي المساند للولايات المتحدة عن احتمالين: تجنيب أي تصعيد قد تقوم به واشنطن لو اصطفّت تونس صراحة مع روسيا، إذ يمكن أن يتحول الموقف الأميركي، ويصبح أكثر تشدّداً ووضوحاً في إدانة الانقلاب، والضغط على الرئيس قيس سعيّد سياسياً ودبلوماسياً. الاحتمال الثاني، وهو الأرجح، يتعلق بالمفاوضات الجارية بين تونس وصندوق النقد الدولي، والكلّ يعلم ما للولايات المتحدة من وزن في القرارات التي قد يتخذها الصندوق الذي تعوّل عليه تونس للخروج من أزمتها الاقتصادية الحادّة.
رغم كلّ هذه الاعتبارات، يسعى رئيس الجمهورية تحت ضغط دوائر عديدة متنفذة لحثّه على زيارة روسيا، فبهذه الخطوة يمكن أن يدير مساومة مثمرة للولايات المتحدة لدفعها إلى غضّ الطرف عمّا يجري في تونس، خصوصاً أنّ الرئيس مصرّ على استكمال مشواره القاضي بتفكيك تجربة الانتقال الديمقراطي ومؤسساته، كما علينا ألّا نغفل عن أنّ سعيّد يلتقي، على المستوى الفكري السياسي، مع بوتين، فالاثنان يستندان إلى شعبوية تسلطية، لا تعير للتشاور والحوار مع المعارضة أي أهمية.
يعوّل الرئيس على هذا "الابتزاز السياسي" حتى يبدو داخلياً بطلاً وطنياً متمسّكاً بسيادة بلاده، رافضاً إملاءات الخارج، وتحديداً الولايات المتحدة، مستعيداً بذلك سردية السيادة الوطنية، غير أنّه قد يخطئ الحسابات، إذا قدّرت واشنطن أنّ زيارته موسكو استفزاز غير مقبول، ففي وقتٍ يقاطع فيه العالم تدريجاً روسيا وقادتها تحديداً، ويسلط عليهم عقوبات متتالية، يقدِم الرئيس سعيّد على زيارة بوتين... حتى بشار الأسد اكتفى بمساندة بوتين، ولم يزره.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.