عن دلالات فشل الاستشارة الإلكترونية في تونس

عن دلالات فشل الاستشارة الإلكترونية في تونس

21 مارس 2022

تونسيون يتظاهرون في العاصمة ضد إجراءات قيس سعيّد (20/3/2022/فرانس برس)

+ الخط -

أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيد، قبل أكثر من ثلاثة أشهر عن انطلاق ما سمّاها الاستشارة الإلكترونية من أجل معرفة توجهات الشعب التونسي ومواقفه حول قضايا جرى حصرها في ستة محاور، حسب ما ورد في الوثيقة الإلكترونية: الشأن الاقتصادي، التنمية المستدامة، الشأن التعليمي والثقافي، الشأن الاجتماعي وجودة الحياة. وكان سعيّد يعدّها مقدّمة واختبارا سهلا من أجل البرهنة على صواب توجّهاته والتفاف الشعب حوله ومساندته الكبيرة له، فمنذ أعلن يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن محطّات سياسية يراها جديرة بتأسيس مشروعه (يرفض استعمال "خريطة الطريق")، بدت الاستشارة مرحلة حاسمة، وهي العتبة التي يقتحم بها طريقه الملكي المعبّد.
لم تصل نسبة المشاركة، بانتهاء الآجال التي حدّدها لها الرئيس (20 مارس/ آذار) في تزامن رمزي مع ذكرى عيد الاستقلال، سوى نسبة 5% من مجموع المواطنين الذين تجاوزت أعمارهم 16 سنة، كما نصت شروط المشاركة  ذاتها. شهدت الاستشارة منذ انطلاقها تعثّرا تقنيا، ما دفع إلى تأجيل انطلاقها بضعة أيام. ومع ذلك، ظلت هذه العثرات التقنية تلاحقها من حين الى آخر. التقى الرئيس وزير تكنولوجيا الاتصالات مرات، وغير معروف تحديدا ما تحدثا فيه، ولكن رئاسة الجمهورية تنشر، من حين إلى آخر، بيانات تشير إلى غضب الرئيس من هذه العثرات الصادرة، في تقديره، عن جهاتٍ عددية  تتآمر عليه، وعلى تونس. لذا، يعمدون إلى تعطيل الاستشارة. لذا ظل الرئيس يكيل اتهاماته إلى أعداء الشعب ممن يحولون دون مشاركة الشعب في تقرير مصيره، وإبداء خياراته الاستراتيجية الكبرى. ومرّت الأيام وانتهت الآجال، ولم يشارك شعب سعيّد في هذه الاستشارة، فقد كانت نسبة المشاركة حقيقية، إذ لم تتجاوز سقف 500 ألف مشارك.

جرس إنذار يُقرع حتى يستفيق الرئيس على انفضاض الناس من حوله، حتى الذين أحسنوا الظن به وساندوه

ومع كثافة  البروباغاندا التي رافقت الاستشارة، ظلت المنهجية غامضة، على المستويين، التقني والفني. ولا ندري الجهة التي صاغت محاورها أو منهجية معالجة المعطيات التي وردت فيها، عدا عن سرّية المعطيات .. إلخ. جوانب الغموض التي تحيط بها ظلت عديدة، فضلا عن التباس المنزلة القانونية لها، من حيت تمويلها ورقابتها .. إلخ، والجهات التي تشرف عليها وضمانات سلامة نتائجها. لم يعد الناس معنيين بمتابعة خطابات الرئيس، وهي التي لا تخلو من إشاراتٍ مبهمة إلى "المتآمرين والخونة .. إلخ"، فيما الاعتداءات العديدة على الحريات لم تستثن ساسة ونواب برلمان وإعلاميين ووجوه مجتمع مدني، حتى أنها طاولت، أخيرا، عميد المحامين، فضلا عن أن إحالة بعضهم أمام المحاكم كانت كافيةً لتنامي هذا الخوف من سلطة الرئيس المطلقة، وقد استفرد بها وحده، خصوصا بعد أنّ حل مجلس النواب والمجلس الأعلى للقضاء الذي عيّن آخر بديلا على مقاسه. 
لا يمكن مقارنة نسبة الإقبال عليها مع الانتخابات، فلكل من الاستشارة والانتخابات مناخاتها ورهاناتها وآلياتها، غير أن الأمر لا يخلو من بليغ الدلالة. العزوف (أو الإقبال المحتشم) يدعو رئيس الجمهورية إلى أن يكون أكثر تواضعا، وهو الذي يدّعي أنه ضمير الشعب ولسانه، وأن شعبه قد أوكله أمره. كما أن هذا العزوف جرس إنذار يُقرع حتى يستفيق على انفضاض الناس من حوله، حتى الذين أحسنوا الظن به وساندوه في انقلابه ذات يوم، على وهم أن يتغير حالهم. لقد وقف الشعب التونسي على الكارثة التي يهوي إليها بلدهم منذ حلّ هذا الانقلاب. غلاء المعيشة، انهيار اقتصادي، وأزمة اجتماعية حادّة تنذر بإفلاس البلاد، وقد زاد اندلاع الحرب أخيرا بين روسيا وأوكرانيا الطين بلة.

لم تكن الاستشارة حدثا يشدّ الاهتمام. ولذلك ظلت لدى طيف واسع من الناس فاقدةً كل رهان

إنها "بروفا" على اختبار الديمقراطية المباشرة الإلكترونية، غير أن تغييب أدنى صور المشاركة الجماعية فيها، أو أي حوار مع الشركاء المفترضين من أحزاب ومنظمات وطنية وجمعيات جعلت هذه الاستشارة مسقطة، فضلا عن تزامنها مع مشكلات اقتصادية واجتماعية حادّة حجبتها، فلم تكن الاستشارة حدثا يشدّ الاهتمام. ولذلك ظلت لدى طيف واسع من الناس فاقدةً كل رهان. وعلى الرغم من الضغوط الكبرى التي مورست على الناس في الشارع والمعاهد والجامعات وتسخير وسائل الدولة، ظلت النسبة منخفضة بشكلٍ حيّر الرئيس. والحال أن الإجابة يمكن أن تكون واضحة وصريحة، لو تحلّى الرئيس ببعض التواضع. ومع ذلك، استبق الرئيس نتائجها، إذ قال، يوم 27 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2022، أي بعد أسبوعين من انطلاق "الاستشارة الإلكترونية" إن 82% من المواطنين يفضّلون النظام الرئاسي، ناسفا بهذا أي رصانة أو حذر منهجي في التعامل مع نتائجها، وهي التي لم تراع مطلقا أيا من مبادئ التمثيلية لهؤلاء المواطنين.
في مناخ الغموض هذا، واهتمام الناس بقضايا الرغيف والخدمات المنهارة تقريبا، ظلت الاستشارة يتيمة، لا أحد أقنع الناس بها، فحتى "الحشد الشعبي" خذل الرئيس، هذه المرّة، ولم يقم بما ينبغي من تعبئة، حتى يهرع الناس إلى المشاركة في هذه الاستشارة الإلكترونية. سيمضي الرئيس في بسط مشروعه الهلامي، غير عابئ بهذه النتائج المخيبة له. لن يتوقف القطار حتى تحلّ الكارثة، لا قدّر الله. لا يدرك السائق ما ترسله لوحة القيادة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.