عن خروج النّاس
عن خروج الناس مع الناس، الذي لم يعد كافياً. عن الأصوات المشتّتة على جدران السلطة. عن الأصوات المتردّدة في الشوارع بلا سامع. عن الحرمان وهو يُجبر الإنسان على الخروج من بيته... عن هذا كلّه، علينا أن نتساءل. في سياق لجوء متزايد لحشد من الناس للخروج إلى الشارع لكسر تعنّت السلطة تجاه مسائلَ ضرورية، وهو خروج تُحاول هذه السلطة تهميشه، وإغلاق أذنيها عنه. ويحدُث ذلك على السواء، مع المجتمعات التي اعتدنا خروجها في احتجاجات شعبية، ومع التي لا يُعرف عنها هذا السلوك. فهناك مجتمعات لم نعتد منها الحراك الشعبي لطبيعتها الرأسمالية اللبيرالية، قائمة على تقسيم الجماعة إلى أفراد لا يفكّرون إلّا في أنفسهم، وكلّ منابع التعليم والثقافة تروّج معركةَ الفرد ضدّ أشياء مجرّدة لا تمثّلها مؤسّسة واحدة، بل هي عائمة مثل الفشل المهني، والحلم الأميركي، والقلق، والإفلاس المالي، والبطالة... مشكلات يُقنَع الفرد بأنه ما من جهة مسؤولة عن تورّطه فيها مهما كان وضعه مزرياً، وأنّ بطالته، أو هشاشة وضعه الاجتماعي على عاتقه، ولا توجد منظومة يلومها. فالحلّ بيديه، وإذا لم ينجح في ذلك، فالعيب فيه، وعليه أن يبذل جهداً أكبر ليواكب الظروف.
هذا الفرد لن يُفكّر في الخروج في احتجاج ضدّ ما لا يرى أنّه يطحنه بوسائل متعدّدة، وهو النظام الرأسمالي المُتغوّل الذي يقف خلف مآسيه كلّها. لذا، كان من السهل أن ينتصر دونالد ترامب، رغم الوعي العام لدى الأميركيين بأنه "أشبه بثور هائج منه برجل سياسة"، لافتقادهم إلى حاضنات شعبية تسمح بتحويل الوعي الفردي سلوكاً جماعياً قائماً على التزام بما يراعي المصلحة الجماعية. فعدد الذين كانوا يتخوّفون من ترامب ولم يصوّتوا في الانتخابات ليس بالقليل، لكنّ ضعف الوعي بضرورة الاصطفاف مع الجماعة ضدّ جبهة واحدة محدّدة تمثّلها عصابة ترامب أمالَ الكفّة إلى صالح الكائن المتهور.
لذا، حين قامت مجموعةٌ من معارضي ترامب بحراك خارجي، كان ذلك مثيراً للاهتمام في مجتمع رأسمالي صِرف، فمعظم الاحتجاجات في هذا المجتمع كانت تخرج من أجل مسائل محدّدة مثل العنصرية، مع أن الجموع خرجت من أجل شكل آخر من الظلم والتعسّف، في ولاية ترامب السابقة، في حادثة اقتحام الكونغرس الفريدة (2021)، وصار للأمر طابع سياسي يعني شخصاً واحداً، وما يحدث الآن في ولايته الثانية أيضاً مؤشّر على تغيّر الأوضاع.
في هذه الحالة، تقتحم موجات عالية من الحشود الشوارعَ الأميركية مثل تسونامي بشري، يقوده غضبٌ عارمٌ من "الفجور الرأسمالي" لدونالد ترامب وإيلون ماسك، لكن مقدار الأمل في تحقيق أيّ إنجاز كبير لها غير مُشجِّع، بالنظر إلى ردّات الفعل السابقة على أفعال الكائن البرتقالي، الذي رغم تراجعه عن بعض خططه، لكنّ رغبة الاستحواذ موجودة، وما لا يُؤخذ كلّه لا يُترك جلّه.
تواجه الصعوبات التي ترافق احتجاجات الشارع الأميركي (ولو بنسبة أقلّ) احتجاجات العالم كلّه، وتتعلّق في الأساس بطبيعة السياسيين المعنيين بموضوع الاحتجاج. وإذا كانت موجات الاحتجاج سابقاً تؤثّر في صناعة القرار (ولو بقدر ما)، فنحن نشهد موجةً غير مسبوقة من الاحتجاجات ضعيفةَ الأثر في السياسات. يتمثل سبب ضآلة تأثير صوت الشارع في أن السياسي كان يضطر إلى سماعه، لأن رصيده السياسي القائم على نسبة معينة من الدعم الشعبي مهدّد بالتراجع، وهذا يعني إفلاسه، فيتنازل للحفاظ على مكانته، بينما الحُكم بعقلية الرأسمالي صاحب المصنع الذي لا يسمع العمّال لأن صوت المال أقوى، حتى لو طالت الإضرابات والاحتجاجات، فإنه لن يتنازل، لأن التّكلفة المالية على المدى البعيد ستكون فادحةً، ثمّ إنّ هؤلاء العمال في حاجة إلى تغطية مصاريفهم اليومية، وينتظر في أيّ لحظة أن يستسلموا، فتتحوّل العلاقة لعبةً؛ من يستسلم أولاً.
والمؤشّرات الحالية تقود إلى الاعتقاد بأنّ الحركات الاجتماعية تواجه أوّل عجز جوهري، فالقضية موجودة، والحشد موجود، والزّمن طويل وصبور، ولكنّ الأثر معدوم. ورغم ذلك، يبقى الشارع وسيلةً فريدةً لتنمية التّضامن في زمن الفردانية. ومع تعاظم قوّة المال وتأثيره في القرار السياسي، تصبح إمكانية التغيير أبطأ وأكثر تعقيداً.

