عن النصر والهزيمة في حرب غزّة

18 يناير 2025
+ الخط -

يُتوقع أن يدخل اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة حيّز التنفيذ غدا الأحد. وفي وقتٍ كان يُؤمل أن يبدأ سريانه مساء الخميس الماضي، لم يتوقّف الطيران الحربي الإسرائيلي عن استهداف المدنيين هناك، في ما قد يبدو مؤشّراً على أن إسرائيل قد تستأنف عدوانها على الشعب الفلسطيني في أي لحظة، عندما تستعيد الأسرى المحتجزين. وتكاد التحليلات والتعليقات بشأن هذا الاتفاق تدور حول سؤال مركزي: هل انتصرت إسرائيل في حربها على قطاع غزة؟ أو بالأحرى هل هُزمت المقاومة الفلسطينية؟

تقول الوقائع على الأرض إن دولة الاحتلال نجحت في قتل، أو بالأحرى إبادة، أكثر من 46 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وجرحِ وتشريدِ عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وتدميرِ البنية التحتية من بيوت ومبانٍ ومرافق ومنشآتٍ حكومية وطرقٍ ومدارس ومستشفيات وجامعات ودور عبادةٍ ومعالم أثرية ومصانعَ ومحطّات توليد الكهرباء وشبكات الاتصال وغيرها. كما نجحت في اغتيال قادة من المقاومة وكوادرها ومقاتليها بشكل ألحق ضرراً كبيراً بمنظومتها العسكرية، هذا من دون الحديث عن التداعيات النفسية والاجتماعية المدمّرة للحرب على سكان قطاع غزّة، والتي يُتوقع أن تستمر لأجيال وأجيال كما حدث بعد النكبة (1948). يُضاف إلى ذلك أن دولة الاحتلال نجحت في تفكيك محور المقاومة بإخراج حزب الله اللبناني من الصراع، على الأقل في المنظور القريب، وفرضِ ميزان قوة جديد عليه وتحجيم دوره داخل المعادلة السياسية اللبنانية، وبالتالي، جعلِ إيران تراجع حساباتها في الإقليم، لا سيما بعد سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، ما يمكن عدُّه انتصاراً استراتيجياً إسرائيلياً.

وفي المقابل، أحدث هجوم السابع من أكتوبر وحربُ الإبادة الطويلة التي شنتها إسرائيل على غزّة ارتجاجا عميقا داخل المجتمع الإسرائيلي، وأعادت وضع ''المشكلة الفلسطينية'' بكل تعقيداتها التاريخية والجغرافية والثقافية على طاولة الجيل الجديد من النخبة الإسرائيلية؛ فإذا كان الآباء قد ماتوا، فإن الأبناء والأحفاد لم ينسوا كما توقع أول رئيس حكومة إسرائيلي، ديفيد بن غوريون، قبل أكثر من 76 عاما.

أحدثت حرب غزّة تحوّلا نوعيا في الوعي العالمي، فلأول مرّة في التاريخ تتحوّل حربٌ إلى مقتلة مفتوحة تُنقَل فصولُها المروعةُ على الهواء مباشرة، من دون أن يشكل ذلك أدنى مشكلة أخلاقية لدوائر صنع القرار الدولي. وكانت السقطة الكبرى لوسائل الإعلام الغربي حين تحولت إلى أداة مُسخّرة في يد دولة الاحتلال، وحلفائها في الغرب، لتزييف الحقائق، وإشاعة المغالطات والأكاذيب، وتبرير العدوان الإسرائيلي باعتباره ''دفاعا عن النفس'' في مواجهة ''الإرهاب الفلسطيني''، في تدويرٍ فجٍّ للسردية الإسرائيلية.

في المنحى ذاته، أصبحت إسرائيل تعيش عزلة دولية غير مسبوقة بعد أن انكشفت حقيقتها الاستعمارية والاستيطانية. وشكلت دعوى الإبادة الجماعية، التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها أمام محكمة العدل الدولية، وإصدارُ الجنائية الدولية مذكّرتي اعتقال بحق رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه السابق يوآف غالانت مأزقا قانونيا وأخلاقيا وسياسيا غير متوقع بالنسبة لها.

على الصعيد الميداني، وعلى الرغم من الخسائر التي تكبّدتها المقاومة والدمار الهائل الذي أحدثه العدوان في قطاع غزّة، إلا أن دولة الاحتلال فشلت في تحقيق معظم الأهداف التي أعلنت عنها مع بداية الحرب، في مقدمتها الفشلُ في تحرير المحتجزين بالضغط العسكري. كما أنها لم تقضِ على حركة حماس، وكان لافتاً، في هذا الصدد، ما صرّح به وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قبل أيام، حين قال ''إن الحركة نجحت في تجنيد مقاتلين جدد بأعداد من فقدتهم تقريبا''. ما يعني أن غياب الحركة عن ترتيبات ''اليوم التالي للحرب'' يبقى مستبعداً. كما أخفقت في تهجير سكان قطاع غزّة إلى خارجه بعد أكثر من 15 شهراً من القتل والتدمير.

لم تكن المقاومة الفلسطينية تخوض حرباً نظامية، بالمعنى التقليدي، بقدر ما كانت تخوض حرب صمودٍ في مواجهة مخطّطات التهجير والاقتلاع والتصفية. ولذلك ينبغي أن تقاس حسابات النصر والهزيمة بمدى نجاحها في التصدّي لهذه المخطّطات وإفشالها.