عن النسيج الاجتماعي التركي المهدد باتفاقية إسطنبول

عن النسيج الاجتماعي التركي المهدّد باتفاقية إسطنبول

03 ابريل 2021

إحدى المشاركات في تظاهرة في اسطنبول ضد الانسحاب من اتفاقية اسطنبول (27/3/2021/Getty)

+ الخط -

نشرت الجريدة الرسمية التركية، السبت 20 الشهر الماضي (آذار/ مارس)، قراراً للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يقضي بالانسحاب من "اتفاقية إسطنبول" الموقعة مع مجلس أوروبا، والخاصة بمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف الأسري، والتي صيغت في إسطنبول عام 2011، وصادق عليها البرلمان التركي عام 2012. لم يحدّد المرسوم أسباباً، لكن، وفيما بدا تأييداً للخطوة، غرّدت وزيرة الأسرة التركية، زهرة زمرد سلجوق، عبر "تويتر"، مؤكّدة أن حقوق المرأة في تركيا تصونها اللوائح التشريعية المحلية، وديناميكية النظام القانوني. لم تلق الخطوة انتقادات دولية وأوروبية وحسب، بل أثارت في تركيا نفسها غضب مئات النساء ومناصري حقوق المرأة، الذين تظاهروا غاضبين، رافعين صور نساء قضين ضحايا للعنف الأسري، ورأوا في الانسحاب من الاتفاقية قراراً يقضي "في ليلةٍ واحدة" على تاريخ من النضال من أجل حقوق المرأة، بينما رأت فيه أحزابٌ معارضةٌ خطوة تختزل النساء في مواطناتٍ من الدرجة الثانية، وتبرّر القتل بحقهن. أثار القرار الرئاسي جدلاً حقوقياً بوصفه انقلاباً على حقوق 42 مليون امرأة، وجدلاً سياسياً ودستورياً، فشبّهه معارضون سياسيون بانقلاب عام 1980 العسكري، ورأوا أن خطورته تتمثل في أنه لا يلغي الاتفاقية وحسب، بل معها أيضاً إرادة البرلمان والسلطة التشريعية في تركيا.

بعد القرار الرئاسي، وفي خطوةٍ قد تكون الأولى من نوعها، على صعيد تبنّي الحكومة التركية إحصاءاتٍ رسمية تتعلق بالعنف ضد المرأة، نشر وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، عبر حسابه على "تويتر"، إحصائياتٍ بشأن العنف ضد النساء تبين انخفاض الحالات في بلاده مقارنة بالمعدل الأوروبي والعالمي، وأن معدل الجرائم المرتكبة ضد النساء عالمياً هو 13 جريمة لكل مليون، وأن هذا المعدّل ينخفض في أوروبا ليصل إلى سبع حالات لكل مليون، زاعماً أن هذا المعدل في تركيا لا يتجاوز 3.8 حالات من بين كل مليون. لا تتطابق هذه الأرقام مع أخرى سبق أن قدّرتها منظمة الصحة العالمية، وذهبت إلى أن 38% من النساء في تركيا يتعرّضن للعنف من الشريك مقابل حوالي 25 % من النساء الأوروبيات. وأحصت المنظمة المحلية "We Will Stop Femicide"  ثلاثمائة جريمة قتل في العام الماضي، و474 حالة عام 2019، أي أكثر من ضعف عدد الحالات المسجلة في عام 2011.

برزت الأمومة بوصفها جزءاً من الأيديولوجية الجنسانية لحزب العدالة والتنمية، وأصبحت الخطابات والسياسات المؤيدة للإنجاب علنيةً

تربط اتفاقية إسطنبول بين العنف ضد المرأة وقضايا النوع الاجتماعي، وتدعو إلى حماية الضحية/ المرأة، ومقاضاة الجناة، وصياغة سياساتٍ حكومية متكاملة، ويعتبرها مجلس أوروبا أول صكّ دولي شامل، لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة، يضع معايير ملزمة قانونياً. ومنذ 2019، أصبحت الاتفاقية مثار جدل في تركيا، فشكّكت الاتجاهات المحافظة في صوابية المصادقة على المعاهدة، لكونها، برأيها، تهدّد النسيج الاجتماعي التركي، وتقوّض الهيكل الأسري عبر الطلاق. وبالإضافة إلى مناصرتها حقوق المثليّين والمثليّات، فإنها تتعامل مع المرأة بوصفها فرداً، وتهمل أدوراها الاجتماعية داخل الأسرة، كما أن بنودها تهين قيم المجتمع التركي، لا سيما قيمة "الشرف"، حين تذهب إلى اعتبار التقاليد الدينية أحد الأسباب المولدة للعنف ضد المرأة. ويحتج مناصرو الاتفاقية على إصرار المحافظين على القراءة الخاطئة لها، ويرون أن منح المثليين حقوقاً لا يضرّ بأخلاق المجتمع، وإنما يعزّز المساواة، وأن اعتبار المرأة فرداً يخدم بشكل أفضل مكافحة العنف الأسري، وأن الاتفاقية لا تمسّ الدين، بل تقف ضد توظيفه لتقديم أعذار محتملة للعنف ضد المرأة، وأن الانسحاب منها خطوة ستقوّض الإنجازات التاريخية والإصلاحات التشريعية للبلاد التي سعت إلى التحرّر من الأدوار النمطية للرجال والنساء، وإلى إلغاء المواقف الاجتماعية التمييزية التي تستند إلى فكرة دونية أو تفوق أي من الجنسين.

تربط اتفاقية إسطنبول بين العنف ضد المرأة وقضايا النوع الاجتماعي، وتدعو إلى حماية الضحية/ المرأة، ومقاضاة الجناة

بفضل الحركة النسائية التي ظهرت في مطلع القرن العشرين، أحدثت كل من الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية إصلاحات مختلفة. مع محدودية نطاق هذه الإصلاحات، لا سيما في التشريع الأول للمساواة عام 1923، بما في ذلك الفرص التعليمية، وحظر تعدّد الزوجات، وحقوق الميراث المتساوية، والحقوق السياسية، وغيرها، أصبحت تركيا رائدة على صعيد حقوق المرأة إقليمياً في ثلاثينيات القرن الماضي. وفي الثمانينيات، اكتسبت النسوية، بموجتها الثانية، زخماً جديداً حين صادقت الحكومة، تحت ضغط الحركات الاحتجاجية عام 1985، على اتفاقيةٍ للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، اعتبرت العنف ضد المرأة جريمةً جنائية ترتكب بحقها بوصفها فرداً. مصادقة تركيا على عديدٍ من معاهدات حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس أوروبا، سعياً منها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أعادها إلى مسار تقدّمي، لكن ذلك اصطدم باستمرار حزب العدالة والتنمية في السلطة، والذي أصبح أكثر صراحةً في سعيه إلى تطبيق أجندة الحزب المحافظة. مع ذلك، أثمر كفاح الحركة النسوية التركية عن مصادقة البرلمان على معاهدة إسطنبول عام 2012، إلا أن انتقاداتٍ متزايدةً تعالت في تركيا تتهم "العدالة والتنمية" بتعطيل بنودها، وتبني خطاب وسياسات مناهضة للمرأة، وأن حكومته لم تفعل ما يكفي لمنع جرائم قتل النساء والعنف المنزلي. سعى أردوغان، منذ إعادة انتخابه عام 2018، إلى الاستحواذ على سلطات واسعة، محوّلاً تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. وردّاً على رجالٍ قانون اعتبروا أن قرار الرئيس لا يلغي الاتفاقية، لأن الدستور لا يخوّله الانسحاب منها من دون موافقة البرلمان. وقد أعلن وزير العدل، عبد الحميد غُل، أنه بينما يحق للبرلمان الموافقة على المعاهدات التي تبرمها السلطة التشريعية، فإنه يحق للسلطة التنفيذية الانسحاب منها.

برزت الأمومة بوصفها جزءاً من الأيديولوجية الجنسانية لحزب العدالة والتنمية، وأصبحت الخطابات والسياسات المؤيدة للإنجاب علنيةً بشكل متزايد بعد عام 2007، وحثّ أردوغان النساء على إنجاب ثلاثة أطفال أو أكثر، وعبّر عن رأيه، في أكثر من مناسبة، بأن الرجال والنساء غير متساوين. الاحتجاجات وحدها عطلت أو أوقفت مشاريع قوانين برلمانية حاولت حظر الإجهاض، لكن انتشار الخطاب المعادي للإجهاض أحدث لدى القطاعات الصحية تنظيماً ذاتياً أصبح معه الإجهاض مسموحاً قانوناً، لكنه غير متاح عملياً. وفي 13 أغسطس/ آب عام 2019، أعلن الرئيس أردوغان عن خطة الحكومة الانسحاب من اتفاقية إسطنبول بشكل نهائي، وعلى الرغم من الاحتجاجات التي عمّت الشوارع، لم يبد أي نية في التراجع، ولم يثنه عن التقدّم نحو إلغاء الاتفاقية استطلاع للرأي أظهر العام الماضي أن الغالبية العظمى من الأتراك يعارضون قرار الانسحاب من اتفاقية إسطنبول والذي يظهر مدى تأثير المحافظين داخل حزب العدالة والتنمية، ونفوذ خطابهم المحافظ. ويحرص أردوغان، الذي تخلى عن فكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ليعيد رسم تحالفات تركيا إقليمياً، مثبتاً أقدامها أيديولوجياً على تنشيط قاعدته الانتخابية بين المحافظين، في ظل استياء الناخبين من الانكماش الاقتصادي المستمر منذ سنوات، تمهيداً لمراجعة دستورية تقرّ دستوراً جديداً للبلاد، يبدو أنها ستعزّز الاستقطاب السياسي الاجتماعي في الداخل التركي، وتفتح الباب على جولة مواجهةٍ واسعةٍ بين الشخصية التركية العلمانية والنزعة المحافظة. هذه المواجهة المتكررة ما زالت التهديد الأكبر للنسيج الاجتماعي التركي.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.