عن المواجهة الصعبة مع غزّة والمعقّدة مع اليمن

12 يناير 2025

حشد تضامني مع غزّة وفلسطين في صنعاء (10/1/2025 فرانس برس)

+ الخط -

يصف كيان الاحتلال الإباديّ مقتل جنوده في غزّة، ومن بعد غزة في جنوب لبنان، بـ"الحدث الصعب"، أي أنّ "الصعوبة" أو القسوة هي سمة المعارك التي يخوضها وسط أطلال غزّة المنكوبة، إنّما الأبيّة والمقاومة، فيردّ يومياً على خسائره في العديد والعتاد بمزيد من المجازر الوحشية التي ما برحت تصدم العالم. بيد أنّ مواجهته مع اليمن تأخذ صفة مختلفة هي "التعقيد"، لكونها تحصل على "جبهة" غير محاذية وغير حدوديّة، بل بعيدة آلاف الأميال، ومجابهتها أمر معقّد ومكلف جداً.

تتصاعد كلفة الحرب مع اليمن بشكل كبير، فالكيان الصهيوني يأخذ التحدّي الحوثيّ على محمل الجدّ، ويبدو حائراً في كيفية التعامل معه، منذ إعلان القيادة الحوثية مساندة غزّة واستيلاءها على سفينة "غالاكسي ليدر" لمالكها الإسرائيلي، وقد بدت تلك العملية بمثابة "تدريب" أكثر من كونها عملية حربية، فالسفينة التي كانت ترفع علم جزر الباهاما وتديرها شركة يابانية ذات صلة غير مباشرة برجل أعمال إسرائيلي يملك أسهماً في الشركة البريطانية التي تملك السفينة. ومع الوقت تحوّل التدخل اليمنيّ المساند لغزة إلى إطلاق الصواريخ البالستية والمسيّرات في اتجاه فلسطين المحتلة، ففي ليلة 18 – 19 يوليو/ تموز 2024 ضربت مسيّرة مبنى في شارع بن يهودا على مقربة من السفارة الأميركية وسط تل أبيب (يصرّ اليمنيون في أدبياتهم وبياناتهم على اعتماد اسمها القديم يافا)، ما أسفر عن مقتل مستوطن صهيوني وإصابة آخرين. علماً أن وسائل الدفاع الجوي الإسرائيلية حاولت التصدّي لهذه المسيّرة ولم تفلح بسبب قدرتها على المناورة.

كان تورّط الحوثيين المباشر في الحرب الإسنادية لغزّة أكثر التطورات إثارة للدهشة في المأساة الفلسطينية الحاصلة، نظراً إلى أن المسافة بين صنعاء وفلسطين تزيد على 2500 كيلومتر (1553 ميلاً) وقدرات الحوثيين العسكرية محدودة، وليست ضرباتهم أكثر من لفتة استعراضية تضامناً مع الشعب الفلسطيني في غزّة ومقاومتها، ولا تعدّ "هجوماً" عسكرياً حقيقياً، رغم استهداف السفن المتوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، في إجراءٍ له تأثير أكبر بكثير من إرسال المسيّرات والصواريخ، فقد أظهر ذلك قدرة الحوثيين على فرض قوتهم في فنائهم الخلفيّ وتعطيل تدفق التجارة البحرية الدولية. وكانت هذه العمليات ناجحةً إلى حد أن القوات البحرية الأميركية ألفت نفسها مضطرّة إلى حشد استجابة بحرية دولية بدءاً من يناير/ كانون الثاني 2024، وقصفت مواقع الحوثيين داخل اليمن على أمل ردعهم، ولكن بلا جدوى، إذ تمكن الحوثيون من تكبيد الاقتصاد الإسرائيلي تكلفة باهظة من خلال منع السفن من بلوغ مرفأ إيلات على البحر الأحمر وإفلاسه فعلياً.

الكيان الصهيوني يأخذ التحدّي الحوثيّ على محمل الجدّ، ويبدو حائراً في كيفية التعامل معه

تكمن نقطة القوة الأخرى للحوثيين في أنّ التكنولوجيا الأحدث والأرخص تضيّق الفجوة مع التكنولوجيا الإسرائيلية المتطورة والمكلفة، ما يقلّل من شأن "التفوق العسكري النوعي" الذي يعتدّ به الكيان الصهيوني وتدعمه الولايات المتحدة. ورغم عدم امتلاك الحوثيين قوة جوية أو بحرية، فقد استطاع هذا الطرف شبه الحكومي في أفقر دولة في المنطقة التهرّب من الدفاعات الجوية الإسرائيلية المتطورة والضرب في عمق الكيان، وتلك رسالة قوية وازنة في مواجهةٍ تدور حول النصر أو الهزيمة على المستويين الاستراتيجي والنفسي، أكثر من كونها حرباً دائرة حول النتائج الإقليمية. بذلك أضحت الجبهة اليمنية النائية واقعاً مقلقاً للعدو يصعب ردعه ووقف تصنيعه الذاتيّ للمسيّرات والصواريخ، وبالأخص تلك الفرط صوتية الفاعلة والمؤذية.

يبدو كيان الاحتلال غير ممتلك في ما يخصّ الردّ على اليمن سوى أهداف البنية التحتية (ميناء الحديدة، خزّانات الوقود، شبكة الكهرباء، إلخ) أملاً في تفاقم الوضع الإنساني وانعدام الأمن الغذائي في المجتمع الحوثي، فالحُدَيْدَة هي نقطة الدخول الوحيدة للمساعدات الإنسانية إلى المناطق الشمالية في اليمن. ولكن من غير المرجّح أن تؤدّي الضربات الإسرائيلية، والأميركية والبريطانية، إلى التأثير في عزيمة الحوثيين على الاستمرار في المواجهة ذات الطابع الإسنادي، والبرهان هو فشل الضربات الأميركية طوال سنواتٍ من الحرب طويلة الأمد مع قوات التحالف بقيادة السعودية، ما يدلّ على قدر عالٍ من القدرة المرنة على الاستيعاب التي يتمتع بها الحوثيون على أرضهم ذات الطبيعة الصعبة. ورغم حتمية اعتماد الكيان الصهيوني على الدعم الأميركي والغربي، إلّا أنه يبدو أضعف من أيّ وقتٍ مضى.

الحوثيون شوكة مؤلمة جداً في خاصرة الكيان الصهيوني، وكلّما هوجموا بالغارات المدمّرة ازدادت شعبيتهم بين اليمنيين المؤيّدين للقضية الفلسطينية، وترسّخ نفوذهم ضمن الأراضي التي استولوا عليها في اليمن، حيث تنظّم أسبوعياً وبانتظام مسيرات مليونية تضامناً مع الشعب الفلسطيني، ما حوّل الحوثيين إلى لاعب إقليميّ مؤثر مدعوم من إيران، بل حوّلهم بالنسبة إلى الغرب والكيان إلى تهديد إقليميّ قادر على عرقلة التجارة في البحر الأحمر. ورغم حرص "إسرائيل" على الردّ على أي هجمات حوثية، أثبت الحوثيون، بين عامي 2015 و2022، أنّهم قادرون إلى حدّ بعيد على تحمّل الغارات الجوية، بل الإفادة منها. فمن المشكوك فيه أن تتمكّن "تل أبيب" من النجاح، حيث فشلت سابقاً كلٌّ من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية، ولن تتوقف الضربات الحوثية إلّا مع توقف الإبادة في غزّة.

يدرك الحوثيون بالتجربة قَدْرهم وحجمهم في اللعبة الإقليمية، ويعون أنّ المواجهة الغربية والإسرائيلية معهم ليست صعبة فحسب، بل معقدة بامتياز

تبدّدت الشكوك حول الدور المؤثر الذي يمكن أن يقدمه الحوثيون في المواجهة الحاصلة، بين أعمال بحرية وأخرى صاروخية تربك الولايات المتحدة والكيان الذي أُرغم على إعادة تقويم خسائره الاقتصادية وكلفة الحرب الطويلة، فمن تداعيات أزمته الاقتصادية ذاك الحدث البارز المتعلّق بسفينة الحاويات "زيم أوروبا" التي تديرها شركة الشحن الإسرائيلية "زيم" التي اضطرت إلى القيام برحلة بحرية أطول بنسبة 56% والدوران حول أفريقيا عبر المحيط الأطلسي ورأس الرجاء الصالح، ما يكشف العقبة الاقتصادية واللوجستية التي تواجهها شركات الشحن الإسرائيلية. كما أنّ الضربات الصاروخية والمسيّرة على أم الرشراش (المسمّاة إيلات) لا تقوّض أمن الكيان الصهيوني فحسب، بل تقوّض طموحه الاقتصاديّ أيضاً.

ثمّة آراء غربية مفادها بأنّ الهجمات الصاروخية الحوثية، في البحر وعلى الكيان، المستمرّة منذ بدء الإبادة في غزّة، توفّر للحوثيين وخصوم الولايات المتحدة الآخرين بيانات تستخدم لتحسين فاعلية الهجمات على السفن البحرية الأميركية والمنشآت البرّية مستقبلاً، فالهجمات هذه توفّر للحوثيين ولداعميهم في طهران قدراً هائلاً من البيانات حول كيفية استجابة الدفاعات الجوية الأميركية وحلفائها للصواريخ والمسيّرات، وبالمثل يمكن للحوثيين مشاركة هذه البيانات مع الروس في مقابل بيانات الاستهداف الروسية للسفن في البحر الأحمر، على أن تستخدم البيانات ضد دفاعات البحرية الأميركية لاحقاً. ويرى المحللون الغربيون أن السياسة الأميركية تجاه الحوثيين بين عامي 2023 و2024 تثبت أن "إدارة التصعيد" نهج فاشل وسياسة غير مستدامة، فقد "صعّد" الحوثيون مراراً وتكراراً ولم يواجهوا سوى رد أميركيّ محدود لم يفعل شيئاً لإدارة الصراع. أطلق الحوثيون أولاً مسيّراتهم وصواريخهم على الكيان في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ثم وسّعوا هجماتهم لاستهداف الشحن العالمي. ومنذ ذلك الحين، أعلنت جماعة الحوثيين أن أيّ ردّ أميركي سيكون محدوداً ولن يشكل أي تهديد لسيطرتها في مناطق واسعة من اليمن. ودرس الحوثيين من هذه الحرب أنّهم قادرون على إطلاق الصواريخ والمسيّرات على السفن الحربية الأميركية وحركة الملاحة العالمية وشركاء الولايات المتحدة من غير أن يتعرّضوا سوى لعواقب محدودة. لذا بات الحوثيون يدركون بالتجربة قَدْرهم وحجمهم في اللعبة الإقليمية، ويعون أنّ المواجهة الغربية والإسرائيلية معهم ليست صعبة فحسب، بل معقدة بامتياز.