عن المسلسل الدنماركي بورغن

عن المسلسل الدنماركي بورغن

11 يونيو 2022
+ الخط -

تابعتُ حلقات المسلسل السياسي الدرامي الدنماركي بورغن (يعرض على منصّة نتفليكس، من كتابة أدم بلايس وإنتاج دي أر تم، وإخراج مشترك، وهو من ثلاثة مواسم، عرض الأول والثاني منه عامي 2010 و2011، والثالث في 2013، لتعود الشركة المنتجة وتطرح موسماً رابعاً في 2022). وهو يتحدث عن بيرجيت نيوبرج، الشخصية الأساسية في المسلسل الطويل، متخيلة أول امرأة تصل إلى رئاسة الوزراء في الدنمارك (أول امرأة تحكم الدنمارك في الواقع كانت هيلي تورنينج، انتخبت، للمفارقة، بعد عرض الموسم الأول من المسلسل) وكأنّ صنّاع العمل كانوا يملكون نبوءة حول ما سيحدث في الدنمارك بعد سنة.

بيرجيت نيوبرج سياسيّة منخرطة في حزب المعتدلين، وزوجة وأم في الوقت نفسه، تربطها بزوجها الداعم لها علاقة متينة وملهمة، وبطفليها علاقة فيها كثير من الحنان مع قدر من الصرامة اللازمة لتسيير شؤونهما، ونتيجة مصادفة فضائحية صحافية ما، يجرى انتخابها رئيسة للحزب الذي تنتمي إليه ثم رئيسة لمجلس وزراء الدنمارك، وهي في أول أربعينياتها.

يشتغل المسلسل على منحيين: الأول كيف تُصنع السياسة الداخلية الدنماركية، ووضع الأحزاب البرلمانية والمستقلة وآليات الحكم الديموقراطي والتفاصيل المرتبطة بهذه الاليات. الثاني تسليط الضوء على شكل المجتمع الدنماركي، وتركيبة العلاقات الأسرية والتراتبية المجتمعية في مجتمع قطع أشواطاً كبيرة في الحريات الفردية والعامة.

والحال، أنّ صورة الديموقراطية التي تصل إلينا، ونحلم نحن سكان هذه المنطقة بأقل ما يمكن منها، ليست بالنصاعة التي نظنها، فالصراع الداخلي الذي يجري بين الأحزاب أو بين أعضاء الحزب الواحد يحدث فيه استخدام كل ما يمكنه أن يكون قذراً ومسيئاً، فباستثناء القتل والإيذاء الجسدي كله يبدو مباحاً في معركة السياسة الداخلية أو في اللعبة الديموقراطية، تشويه السمعة والبحث في التواريخ الشخصية عن أصغر الأخطاء التي يمكن للكائن البشري أن يكون قد ارتكبها وتوظيفها لتصبح سلاحاً في وجهه، هو أسلوب واحد فقط من أساليب فيها من القسوة الكثير مما يكشف عنه صراحةً مسلسل بورغن، كما يكشف بوضوح أنّ في السياسة لا يوجد عدو دائم ولا صديق دائم ولا مبدأ دائم، كل الشعارات التي تطرحها الأحزاب المتنافسة (يمين ويسار ووسط) يمكن التنازل عنها في حال خطر خسارة السلطة. أما الصحافة ودورها في اللعبة الديموقراطية، فيظهر المسلسل أنّ حرية الصحافة قد تؤدّي، أحياناً، إلى كوارث إنسانية، خصوصاً في الصحافة الشعبية أو صحافة الفضائح الصفراء، لكن على الجهة الأخرى تفرض الديموقراطية حدّاً كبيراً من الشفافية لا يمكن للعاملين في السياسة التنصّل منها أمام الرأي العام.

الرأي العام الذي حتى لو لم يكن أغلبه يهتم بالشأن السياسي إلا أنّ من أهم حقوقه أن يكون من يمثلونه في البرلمان صادقين فيما يقولونه له، وأمينين في سعيهم إلى معالجة كل مشكلات المجتمع وتأمين الرفاهية لمواطنيه، فالرأي العام سوف يسقط كل من يحيد عن الصوابية الأخلاقية، تاركاً محاسبة الخارجين عن الصوابية السياسية للبرلمان نفسه. هكذا تتخفّف لعبة الديموقراطية مما يعلق فيها في أثناء المعارك والحملات الانتخابية والسعي إلى الحكم والسيطرة، فثمّة من يراقب وينتظر الوقوع في الخطأ ليفضح ويحاسب، وهو ما علينا نحن، سكان هذا الشرق، أن نتابعه بحسرة، فكلّ ما حصل خلال عقد ماض ونيف كان سعياً إلى الوصول إلى هذه الشفافية والمحاسبة، قتل من قتل من الشعوب العربية، وشُرّد من شُرّد، واختفى في المعتقلات من اختفى، لأن الشباب العربي حلم أن يحكمه موظفون يعرفون أنهم سوف يُحاسبون لو أخطأوا أو أفسدوا وفسدوا، لا آلهة مقدّسة هي التي تعاقب وتحاسب من يتجرّأ على المساس بهيبتها.

قد يتابع المشاهد الأوروبي مسلسلاً سياسياً مثل "بورغن"، وهو يفكّر كيف يمكنه أن يكون هو ذاته في قلب اللعبة السياسية، لا ناخباً، بل مشاركاً فاعلاً في حكم دولته، فالحكم هناك ليس امتيازاً ربانياً أبدياً، بل هو وظيفة تحتاج إلى طاقة هائلة. أما المشاهد العربي مثلي، فسوف يتابع المسلسل وهو يفكّر بتاريخ طويل من التفرّد بالحكم والاستبداد الوحشي الذي جعلنا، نحن أنفسنا، غير واثقين، ليس فقط من عدم قدرتنا على المحاسبة، بل حتى بعدم أحقيتنا في المشاركة في سياسات بلداننا، لأننا لسنا مؤهلين لذلك، ما يجعل كثيرين منّا يتساءلون دائماً السؤال الغريب، كلما حدثت محاولة نحو التغيير: ما هو البديل؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.