عن الشعب والمثقّف الشعبوي
ما يميّز العقد الزمني الحالي قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على إعادة تعريف العلاقة بين النُّخبة والجمهور، ذلك أن دور المثقف النخبوي طرأت عليه تحوّلات مهولة، مع انتشار هذه الوسائل وسهولة وصولها إلى الجميع، فبدلاً من دور "الوسيط النقدي" للمثقّف النُّخبوي بين الشعب والسلطة الحاكمة، أو بين الشعب والمعرفة، بوصفه حلقة وصل تتمتّع بالاستقلالية والوعي اللازمين لترجمة الواقع إلى لغة نقدية، وإعادة طرح الأسئلة المسكوت عنها، تحوّل المثقف "مؤثّراً ثقافياً" رهيناً لردّات فعل تصدر من معجبيه، وبات تأثيره محدوداً برغبات جمهوره على طريقة "الجمهور عايز كده"، فينتج خطاباً يستند إلى عدد اللايكات والتعليقات لا إلى الموقف أو المبدأ الذي عليه أن يلتزم به، احتراما لدوره مثقّفاً عضوياً يبني بحذر وهدوء علاقة نقدية متينة الأسس بين الواقع والشعب. هكذا تحوّل خطاب المثقّف المعرفي والنقدي خطاباً تحريضياً أحياناًَ، وتصالحياً في أوقات كثيرة، بهدف تحقيق انتشار بين جماهير وسائل التواصل، الذين لا يجمع بينهم أيُّ رابط سوى رابط اللحظة التي يلتقون فيها في منشور كتبه مثقّف نقدي قديم، تخلّى عن دوره لصالح خطاب شعبوي " كاره للنخبة"، ويتهم كلّ فكر نقدي بالاستعلاء أو الانفصال عن الناس، ويضع "المثقّف المؤثّر" في موضع إنكار الذات والدور من أجل الاندماج في مزاج عام شعبوي سريع الانفعال.
لكن، من هو هذا الشعب الذي يتذرّع به المثقّفون ويبرّرون به تحولاتهم؟ هل هو كتلة واحدة متجانسة؟ واقع الحال يقول إن الشعب، ليكن السوري مثلاً، هو كتل متعدّدة بأمزجة مضطربة وبوعي مشتّت، تتحرّك بين المعرفة والغضب، وبين الأمل واليأس، وبين الحلم والخيبة، وبين الانتصار والهزيمة. هذه الكتل شديدة التناقض، تبحث في وقت من الأوقات عن خطاب يؤكّد مشاعرها بدلاً من انتقادها، وتذهب خلف من يؤكّد لها أوهامها بدلاً من تفكيكها، وتنجرّ وراء من يصفّق لها بدلاًَ ممّن يصارحها بحقيقتها ويحاول معها تنفيذ واقعها وكشفه وتعريته لإعادة بنائه وفق أسس سليمة. هنا تماماً يكمن التحدّي، فما يجمع هذه الكتل هو فقدانها الثقة وإرهاقها وسحقها، وفقدانها معنى وجودها ومبرّره، دور المثقف النقدي هو أن يتحوّل ضميراً صاحياً يعمل وسط نسيج هذه التناقضات لينتج خطاباً معرفياً لا يزوّر الحقائق ولا يجمّلها، بل يشتغل في تكريسها كما هي، فالحقيقة العارية قيمة معرفية وتغييرية، وتكريسها قد لا يرضي الكتل الشعبية متناقضة الأهواء والمشاعر، لكنّه يحفظ للمثقّف المسافةَ المعرفيةَ اللازمةَ لانتقال المجتمع خطوات نحو الأمام، كما يحفظ له ضميره النقدي، وهو الضمير الذي أنقذ أوروبا من عصور الظلام الدينية، وأوصلها لتكون واجهة العالم الأول في العدالة والمساواة والحرّيات وحقوق الإنسان.
ثمّة فجوة كبيرة كانت قد حدثت في المجتمع السوري، اتضحت بعد انطلاق ثورة 2011، فانكشف المجتمع على حقيقته، طائفياًَ وفئوياً، لم يتمكّن من الصمود في وجه العاصفة التي أحدثتها رغبة التغيير، فتحوّلت بعض نخبه إلى مجرّد أبواق للنظام، وهو ما يحدث الآن أيضاً مع النظام الجديد بكلّ حال، وكأن لا شيء قد تغيّر. تلك الفجوة الكبيرة سرعان ما ردمتها وسائل التواصل الاجتماعي برداءة، إذ بدأت معها تحوّلات المثقّف الذي ادعى تمثيل الشعب عبر إعطائه ما يريد من صورة وهمية للثورة، وتجميل للسلاح وللدين، أو للنظام وحلوله الأمنية في جهة مقابلة، من دون أن يقدّم له أدوات للفهم أو للتغيير، تحوّل المثقّف من ضمير نقدي إلى وهم شعبوي لاهث وراء التصفيق، ومن دور تغييري إلى وهم انتشار، وتحوّلت الثقافة استعراضاً سطحياً. وهذه الانعطافة المهولة في دور المثقّف تبدو كما لو أنها قد تكرّست بالكامل، فما نشهده اليوم من تهليل المثقّفين للسلطة الحالية التي ترتكب أخطاءً ترقى إلى مستوى الجرائم، يجب أن يتوقّف، فما تحتاجه سورية هو بناء علاقة نقدية حقيقية، يقدّم فيها المثقّف رؤيته بأمانة، حتى لو خالفت المزاج العام. فالمثقّف يجب أن يبحث عن الحقيقة لا عن جماهير مصفّقة، والمثقّف لا يتهافت بل ينذر، ولا يعيد إنتاج خطابات قديمة بل يبتكر أخرى جديدة تعيد إليه دوره الحقيقي.