عن السودان وذكريات آخر العام

عن السودان وذكريات آخر العام

22 ديسمبر 2021
+ الخط -

عادة ما تثار في ذاكرتي ذكريات حزينة عديدة في الشهرين الأخيرين من كل عام، ففي مثل هذه الأيام منذ حوالي ثماني سنوات صدر قانون تنظيم (أو منع) التظاهر عام 2013، وهو القانون الذي أعقبه احتجازي، ثم الحكم علي، في محاكمةٍ عاجلةٍ خاطفة، بالسجن ثلاث سنوات، بالإضافة إلى ثلاث سنوات أخرى للوضع تحت المراقبة والحبس المسائي يوميا في قسم الشرطة، تلك الأيام التي كان واضحا للجميع المسار الذي تسير البلاد إليه بقوة، أتذكر وقتها ذلك الكم الكبير من الهجوم النابع ممن يطلق عليهم التيار المدني في مصر الذين تباروا في إرهاب كل من انتقد أو تخوف من قانون التظاهر المعيوب، فكل من اعترض وقتها على الإجراءات المقيدة للحريات أو كل انتهاكات حقوق الإنسان تم اتهامه وقتها بأنه "إخواني أو داعم للإرهاب".

أتذكّر في مثل هذا الوقت حالة الانقسام الحادّ في المجتمع وحالة التخوين والتكفير المتبادل بين كل الأطراف داخل كل الاتجاهات في كل مكوّنات المجتمع، الاتهامات المتبادلة بين الجميع بالخيانة للثورة، أو خيانة الوطن أو خيانة الدين. وعلى الرغم من مرور كل تلك الأعوام، إلا أن الاستقطاب لا يزال موجودا، وإن خفّت حدّته، تراه في أي نقاش على "الكلوب هاوس" سواء بين سلطة ومعارضة، أو حتى داخل مكونات ثورة يناير نفسها إن صحّ التعبير، فأي موضوعٍ خلافيٍّ يتم طرحه على منصات التواصل الاجتماعي يناقش بكثير من العنف اللفظي والتعصب والسباب والاتهامات المتبادلة بالخيانة والعمالة والسفاهة، لو كانت النقاشات تتم على أرض الواقع لكان هناك تشابك بالأيدي، وما هو أكثر من ذلك، لم يتغير شيء، على الرغم من كل ما حدث من أحداث جلل خلال ال11 عام الماضية.

أي موضوعٍ خلافيٍّ يتم طرحه على منصات التواصل الاجتماعي يناقش بكثير من العنف اللفظي والتعصب والسباب والاتهامات المتبادلة بالخيانة والعمالة والسفاهة

وكانت هناك، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 محطات عديدة مهمة في ثورة يناير، وأحداث كثيرة، فقد حدثت اشتباكات ومواجهات دامية استمرت عدة أيام بين المجموعات الثورية وقوات الشرطة أو بعض وحدات التأمين التابعة للقوات المسلحة، وهي الأحداث الشهيرة بأحداث شارع محمد محمود التي سقط فيها شهداء عديدون في صفوف المجموعات الثورية، نتيجة العنف المفرط واستخدام الشرطة أو الوحدات العسكرية السلاح الحي.

في تلك الأيام، كانت الأحداث تتصاعد، وسقط مصابون وشهداء عديدون. وما زالت أسئلة مثارة حول ما حدث، ولماذا كان ذلك العنف المفرط من السلطة وقتها؟ ومن هؤلاء الذين كانوا يتعمّدون إشعال الموقف وافتعال العنف مع الجنود، بعد هدوء الأحداث كل مرة. كانت إحدى لحظات الانقسام الشديد والعجيب، عندما كانت القوى الثورية في طرف أمام تحالفٍ غير متجانس يضم المجلس العسكري الحاكم والإسلاميين وأنصار الرئيس المعزول (حسني مبارك) معا في طرف آخر، قبل أن يصل الإخوان المسلمون إلى السلطة بمباركة المجلس العسكري، لتتم إزاحتهم من السلطة مرة أخرى في 2013.

ومع إعادة "تفنيط"، أو توزيع الأماكن، بين عديد من الأفراد والمجموعات، لا يزال الجدل مستمرّا، هل كانت خطيئة الإخوان والإسلاميين في 2011 الدفاع عن المجلس العسكري الحاكم وتأييدهم الإجراءات والقرارات وقتها في مواجهة باقي القوى الثورية وشركاء الميدان؟ هل كان موقف "الإخوان" والإسلاميين ناضجا أو ساذجا، عندما تصوّروا أن مهادنة المجلس العسكري قد تؤدّي إلى نتيجة جيدة؟ وهل كان موقفا ناضجا مقارنةً بذلك الصوت الراديكالي داخل الأوساط الثورية واليسارية الرافض أي حوار أو توافق سياسي مع العسكر منذ تنحّي مبارك؟ أما المجموعات والأصوات العلمانية التي تزعم الانتماء لليبرالية أو ما يطلق عليه التيار المدني كيف يمكن وصف مواقفهم التي تغاضت عن كل الانتهاكات، وكل مخالفات مبادئ حقوق الإنسان أو الليبرالية أو العلمانية؟ وأخيرا، هل كانت المجموعات الشبابية الثورية ساذجةً عندما اتخذت موقفا ثالثا معارضا لجماعة الإخوان المسلمين ومشاركة في الاحتجاجات ضدها، ولكن، في الوقت نفسه، رافضا إجراءات ما بعد 3 يوليو 2013، وما تبع ذلك من انتهاكاتٍ شديدة وعسكرة لكل شيء؟

اتفاق عجيب ومريب خرج أخيرا، ويثير تخوفاتٍ كثيرةً في الشارع السوداني، فقوى الحرية والتغيير ترفضه بشدة

لفت صديق نظري إلى تغريداتي وآرائي منذ أكثر من عام بشأن بعض التفاؤل الذي عبرت عنه إزاء اتفاق المرحلة الانتقالية بين القوى الثورية في السودان والمجلس العسكري الحاكم، فوقتها كان الجميع فرحا بنتائج الثورة السودانية، وإجبار عمر البشير على التنحّي واحتجازه. ثم ذلك الاتفاق والمفاوضات مع المجلس العسكري، والخطوات التي تبعت ذلك، واختيار مجلس سيادة فيه مكونان عسكري ومدني، وتشكيل حكومة تعبر عن مطالب الثورة. ذكّرني الصديق بأني كنت متفائلا وقتها بخصوص ذلك الاتفاق بين القوى المدنية والمجلس العسكري في السودان، وبأنني اعتبرت الاتفاق ربما يكون أفضل من المطالب الراديكالية، أو ربما تكون التجربة السودانية أفضل حظا من المصرية. وفي حقيقة الأمر، تختلف التجارب السياسية والاجتماعية والحياتية عن تجارب العلوم الطبيعية، فحتى تجارب الثورات التي نجحت نسبيا في أوروبا الشرقية أو أميركا الجنوبية كان لها خصوصيتها التاريخية والمجتمعية وظروف الحرب الباردة وما بعدها، وكان في بعض تلك التجارب كثير من المواءمات وإجراءات العدالة الانتقالية التي ساهمت في الانتقال الهادئ للسلطة، أو التحول الهادئ البطيء نحو الديمقراطية بدون عنف أو انقسام مجتمعي حادّ.

حدث انقلاب في السودان، جرى في أثنائه اعتقال الوزراء والمسؤولين وإخفاء رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، ثم خرجت تظاهرات شعبية رافضة الانقلاب، قتل مدنيون كثيرون خلالها، ثم ذلك الاتفاق العجيب والمريب الذي خرج أخيرا، ويثير تخوفاتٍ كثيرةً في الشارع السوداني، فقوى الحرية والتغيير ترفضه بشدّة، ولا تزال تدعو إلى التظاهر ضده، وترفض موافقة رئيس الوزراء، مجبرا، على الاتفاق الذي تراه، كما متابعون كثيرون، خديعة جديدة، فالعسكر دوما متعطّشون للسلطة وللامتيازات غير المحدودة، ولا يقبلون بسلطة مدنية ولا بتسليم السلطة للمدنيين. وتعيش بعض أوطاننا وبلاد في الشرق الأوسط وأفريقيا في تلك المعضلة، انقلابات تلو الانقلابات. عندما يشعر العسكر باقتراب موعد تسليم السلطة للمدنيين كما هو متفق عليه يماطلون ويعطلون المسار بحجج واهية. في الحالة السودانية، كانت هناك ممانعة داخلية كبيرة لما حدث، وكذلك عدم رضى تام من الأطراف الإقليمية العربية الكارهة أو المتخوّفة بشكل تلقائي من الثورات العربية. بالإضافة إلى عدم رضى الأطراف الدولية الكبرى عما حدث، أو بمعنى أدق عدم وجود مصلحة مباشرة لهم، فتراجع العسكر خطوة، وأفرجوا عن رئيس الوزراء ليتم إجباره على التوقيع على اتفاق معيوب.

عندما يشعر العسكر باقتراب موعد تسليم السلطة للمدنيين كما هو متفق عليه يماطلون ويعطلون المسار بحجج واهية

تقول الأخبار والتغطيات والتحليلات إن عديدا من قوى التغيير ترفض الاتفاق الموقع أخيرا بين قائد الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان، ورئيس الحكومة العائد عبدالله حمدوك، ويعتبرونه خيانة وخديعة كبرى. وأقلام سودانية، كما مراقبون، يرونه اتفاقا يحجب معلوماتٍ كثيرة ويبيض وجه الانقلاب العسكري، بالتأكيد هناك مجهود من أطراف دولية عديدة لإنجاز ذلك الاتفاق، فالعسكر في السودان لم يجدوا الدعم المتوقع والمتعارف عليه عربيا في أعرافنا وتراثنا العربي، ولم يجدوا كذلك دعما من أطراف دولية تتعامل عادة بشكل براغماتي مع إنقلابات الشرق الأوسط، ولذلك اختلفت تجربة السودان عن تجربتي مصر وتونس.

وبشكل عام، لا يمكن إغفال الدور الشعبي لرفض الانقلاب في السودان، فلولا تلك الاحتجاجات الواسعة، وذلك العدد من الشهداء الذين قدّمتهم الثورة السودانية أخيرا، لربما تم تمرير الانقلاب العسكري، ما كان هذا سيصير مُحبطا بشكل كبير، ففي البداية كان هناك تفاؤل كثير بالثورة السودانية، شعب مثقف واع نظم ثورة سلمية، وفيه تنظيمات عديدة استطاعت تشكيل قيادة واضحة، على خلاف عديد من ثورات عام 2011، وكانوا في البداية حريصين على تجنّب أخطاء الثورات العربية التي سبقتها. ولكن على الرغم من الانقلاب العسكري على الحكومة المدنية قبل موعد تسليم السلطة، وعلى الرغم من ذلك الاتفاق بين العسكر وحمدوك، إلا ان الثورة السودانية لا تزال تضرب مثالا عظيما في الصمود، فالعسكر في السودان، مثل أي عسكر في العالم، يرغبون دوما في الانفراد بالحكم والصفقات السرية والامتيازات غير المحدودة. ولدى السودان تاريخ كبير في الانقلابات والحكم العسكري، ولكن الشعب السوداني لديه وعي كبير، وهناك إصرار لدى قوى وطنية عديدة على إنجاح التجربة، وعدم المرور في الإخفاقات نفسها التي حدثت في نتائج ثورات 2011. وندعو الله أن يعبر السودان تلك المحنة، ويصل إلى طريق أفضل من تجربتنا، لعل الله يبعد عنهم آفة الانقسامات وخلافات الزعامة وصراعات الأيديولوجيات والتنظيمات، أو تلك الصراعات المصطنعة حول الهوية التي دمرت ثوراتنا في 2011. فعلى الرغم من إنكار بعضهم أو تجاهلهم ذلك، إلا أن منطقتنا العربية غارقة في قضايا صراعات الهوية، مثل هل عروبية أم إسلاموية أم يمكن التوفيق؟ أو قضايا أخرى ونزاعات حول الحكم الديني والحكم المدني والعلماني، وصراعات أخرى بشأن من لديه اليد العليا في الحكم .. المدنيون أم العسكريون، وهل الحكم ديمقراطي أم سلطوي صريح أم سلطوي مغلف بإجراءات ليبرالية. ولذلك يظل ما يحدث في السودان جزءا من تلك الصراعات والنزاعات الموجودة في الوطن العربي منذ عقود طويلة، وهي تلك القضايا التي كان لها دور كبير في النتائج المؤسفة التي وصلت إليها الثورات والانتفاضات السابقة في مصر وتونس وسورية وليبيا.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017