عن الجهاديين الأجانب في سورية

25 ابريل 2025

(سلافة حجازي)

+ الخط -

ملف الجهاديين الأجانب من الملفّات المعقّدة التي على السلطة الجديدة في سورية التعامل معها، بعدما فتح الباب أمام انتقادات خارجية وداخلية، فالأمر لا يقتصر على الجانب الأمني، وما يثيره من هواجس ومخاوف لدى بعض العواصم الغربية والعربية، وإنما يستدعي التساؤل عن المشروع الذي تحمله هذه السلطة، ومضمونه الأيديولوجي والسياسي الحقيقي.

تنقسم آراء السوريين حيال ظاهرة "المهاجرين"، وفق التسمية الشائعة في القاموس الجهادي، فأنصار السلطة عموماً يُكبِرون فيهم تضحياتهم في مواجهة نظام الأسد، ولا يرون ضيراً من تجنيسهم ومنحهم الرتب والمناصب العسكرية، "اعترافًا بدورهم في إسقاط النظام"، إلى جانب تبرير عدم إمكانية إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، بالصعوبات السياسية والأمنية التي تعيق ذلك. في المقابل، تعبّر أصوات سوريين آخرين عن مخاوف متزايدة من وجود غير سوريين في مواقع القرار الأمني والعسكري، فضلاً عن سلوك بعض الجهاديين في الأوساط المدنية، وتدخّلهم في خصوصيات الناس، وما لهذه الممارسات من انعكاسات خطرة على السلم الأهلي الهشّ أصلاً، وحقوق المواطنات والمواطنين وحرّياتهم الأساسية. فوق هذا، ما تزال الذاكرة السورية مثقلة بتجربة الحكم الجهادي متعدّد الجنسيات لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في بعض ما كانت تُسمّى "مناطق محرّرة".

أثار أسلوب تعامل السلطة مع ملفّ الجهاديين الأجانب قلقاً وردوداً سلبية في عواصم أوروبية رئيسية وفي الولايات المتحدة، إذ لم يَرُقها دمج عناصر أجنبية جهادية في بنية التشكيلات العسكرية والأمنية الجديدة، ورأتها خطوةً لا تساعد في تطوير التعاون السياسي والتنموي، وقد تضع عراقيل جدّية أمام مساعي تمويل إعادة الإعمار، والاعتراف السياسي والدبلوماسي الكامل بالوضع الجديد، مشدّدةً على ضرورة بناء مؤسسات وطنية الطابع، لا تخضع لولاءات أيديولوجية متطرّفة أو عابرة للحدود الوطنية.

ليس من المقبول بعد زوال نظام الأسد أن يُقتل مواطنون سوريون لأسباب طائفية، ويشارك في القتل جهاديون أجانب، ثم يفلتون من العقاب

تعزّزت المخاوف بعد مجازر طائفية استهدفت سوريين علويين مدنيين في الساحل السوري خلال الشهر الماضي (مارس/ آذار)، بعد هجمات نفذها مقاتلون موالون للنظام السابق، راح ضحيتها عناصر من الأمن، فقد كشفت تقارير حقوقية وشهادات ميدانية عن عمليات انتقامية بدوافع طائفية، كان من بين المشاركين فيها جماعات جهادية أجنبية. ورغم اعتراف السلطة بالانتهاكات، وإعلانها تشكيل لجنة تقصي حقائق في "أحداث الساحل"، ثم تمديد مهلة عمل اللجنة، تتزايد الشكوك حيال غياب المساءلة والافتقار إلى النّية الجدّية في كسر حلقة الإفلات من العقاب، مع الإهمال المتعمّد للمناطق المنكوبة، واستمرار الجرائم والانتهاكات، وإنْ متفرّقة.

يمكن تصنيف الجماعات الجهادية الأجنبية في فئتين، كانت الأولى ضمن هيئة تحرير الشام وجزءاً عضوياً منها، وعملت الثانية باستقلالية، وراوحت علاقتها بالهيئة أيام حكم إدلب ما بين التحالف والخصومة، وفق تغيّر الظروف والمصالح. واليوم، أياً تكن دوافع السلطة ومبرّراتها، فيشير الإبقاء على عناصر جهادية أجنبية في سورية، بعضها مصنّف على قوائم الإرهاب، إلى استمرار شيءٍ غير قليل من العقلية الفصائلية والتقاليد السلفية الجهادية لدى حكّام سورية الجدد، رغم محاولاتهم إظهار ابتعادهم عنها والتخفّف من إرثها، لعلمهم أنّها تؤثّر سلباً في علاقاتهم الإقليمية والدولية. ومن ثم، إذا كان الجيش السوري الجديد وطنياً ويعبّر عن الشعب السوري كلّه، كما يزعمون، فلا حاجة عندهم إلى الجهاديين الأجانب، لأنّ المشروع الذي أتى بهؤلاء للقتال في سورية لا ينسجم مع بناء هوية سورية جامعة، تؤسّس وطناً حرّاً كريماً، لجميع مواطناته ومواطنيه.

لقد نادت الثورة السورية بالكرامة والحرية وسيادة الشعب، ضدّ نظامٍ رهن البلاد ومقدّراتها لحلفائه الأجانب، واستقدم مقاتليهم ومنحهم الجنسية والسلاح لينكّلوا بالشعب حفاظاً على الحكم. ليس من المقبول بعد زواله أن يُقتل مواطنون سوريون لأسباب طائفية، ويشارك في القتل جهاديون أجانب، ثم يفلتون من العقاب، ويحظون بالحماية والرعاية والتكريم من السلطة الجديدة، لأن هذا سيعني تضاؤل الفروق بين سلوك النظام البائد وسلوك ورثته في الحكم، الذين ينسبون إلى أنفسهم الفضل في "تحرير" البلاد منه.

مسألة الجهاديين الأجانب في سورية سياسية بامتياز، وترتبط بمشروعية الحكم

تتأكّد خطورة هذا الملف بإدراجه ضمن شروط الغرب لتخفيف العقوبات الدولية ورفعها، ويبدو أنّه متضمّن في التصريحات الدبلوماسية الغربية عن "اختبار النيات"، ومراقبة سلوك السلطة الانتقالية، ومعنى ذلك أن موضوع العقوبات تجاوز النظام السابق وما ارتبط به من جرائم وانتهاكات، وأصبح رهناً بسلوك السلطة الجديدة وأجنداتها.

ربما يتمكّن الرئيس السوري الانتقالي من تجنّب الضغوط التي يسببها ملف الجهاديين الأجانب، ويكسب بعض الوقت بما عُرفت عنه من براغماتية. لكنّه مضطرٌّ، في النهاية، إلى اتخاذ قرارات حاسمة، فالمسألة لا تحتمل الحلول الوسط، لأنها ليست مشكلة تقنية تُحلّ بمرسوم يمنح الجنسية، ويبرّر دمجهم في التشكيلات العسكرية، بل هي مسألة سياسية بامتياز، وترتبط بمشروعية الحكم وحدود تمثيله. ومن ثم، عليه الموازنة والاختيار بين الفائدة التي يجنيها من التمسك بهم، والاعتماد عليهم قوةً ضاربة شديدة الولاء له، يرهب بها الخصوم، وبين سلبيات وجودهم ودورهم، وما يستتبعه من خسائر لسلطته ومصداقيتها، خصوصاً قدرتها على إنتاج نظام سياسي جديد، يتجاوز إشكالات الحقبة السابقة وتبعاتها الكارثية، فلا يكون استمراراً لها، بذرائع أيديولوجية ودوافع سلطوية من نوع آخر.