عن إعلام الخارج والتقارب المصري التركي

عن إعلام الخارج والتقارب المصري التركي

21 مارس 2021
+ الخط -

هناك أسباب موضوعية لتقارب تكتيكي تتبدّى بوادره بين مصر وتركيا، بعد سنوات من العداء الصريح بين رأسي النظامين فيهما، أهمها تجاهل اليونان وقبرص وإسرائيل مصر، تماما، في اتفاقية للربط الكهربائي بينها، ما أدّى إلى شرخ في تحالف الدول الثلاث. وقد اعتبرت القاهرة هذا التجاهل امتداداً لاتفاقٍ سابقٍ بينها، في يناير/ كانون الثاني 2010، على نقل الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب شرق المتوسط (إيست ميد)، وتجاهل مصر أيضا، ولا يزال باحثون وكتّاب مصريون يروجون استحالة تنفيذه في عصر لا يعرف المستحيل، لا تقنيا ولا ماليا، لكنها صدمة فشل التحالفات التي استثمر فيها النظام المصري سنوات، سواء لابتزاز تركيا والمكايدة مع النظام فيها، أو لاستبدال سياسات الانسحاب من المنطقة لصالح اللاعبين الجدد في الرياض وأبوظبي، وإيجاد مجال حيوي إقليمي بديل للسياسة الخارجية المصرية.

وفي أعقاب الإعلان عن قيود على السياسات الإعلامية والخطوط التحريرية لبرامج القنوات المعارضة المصرية التي تبث من إسطنبول، تتعلق بالأساس بتخفيف حدّة النقد السياسي لرأس النظام في مصر، والتركيز على الأمور المتعلقة بالسياسات العامة والأمور الحقوقية والمعيشية للمصريين، وهو بالمناسبة أمر ناقشه مقرّبون من هذه القنوات، أو باحثون مستقلون، من قبل، لتحسين أداء هذه القنوات، حضر الكاتب إحدى جلسات نقاشه.

من المضحكات المبكيات أن بعضا ممن يدّعون المعارضة بدوا شامتين في هذه القنوات والقائمين عليها

انبرى الإعلام المصري، ومن يمكن تسميتهم صحافيي المصادفة وباحثيها وإعلامييها في حفلات تهليل وتحليل الموقف، باعتباره نصرا مؤزّرا للحكومة المصرية التي استطاعت تغيير السياسة التركية، وفرض شروط تتعلق بغلق القنوات المعارضة التي يصفونها بأنها غير ذات أهمية. وصل الأمر إلى حد وضع هؤلاء شروطا على الحكومتين، المصرية والتركية، لإتمام هذه المصالحة. ولم يكن ينقصهم سوى اشتراط إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه ملاحة الدول الـ 31 التي وقعت على بيان مجلس حقوق الإنسان في جنيف أخيرا، ويتناسى هؤلاء أن أيا من الشروط الثلاثة عشر التي حاولوا فرضها على الدوحة لم يتحقق شيء منها مقابل مصالحة قمة العلا في يناير/ كانون الثاني الماضي.

إذا صحّ أن مطلب إغلاق هذه القنوات قد طرحته القاهرة أولوية أولى حقا، فإن هذا ينم عن ضحالة، وعدم إدراك أهمية التنسيق مع تركيا في ملفاتٍ أهم بكثير، مثل غاز شرق المتوسط الذي تحجم الشركات الدولية عن الاستثمار فيه، حتى تستقر دوله على حدودها البحرية، وما لتركيا من ثقل فيه، أو الملف الليبي وترتيبات إعادة الإعمار، والملفات الإقليمية الأخرى المرتبطة بالنفوذ في القرن الأفريقي، وما يمكن أن تلعبه أنقرة من أدوار، سواء في الوساطة بين مصر والسودان وإثيوبيا، أو ما بين السودان وإثيوبيا في الملف الحدودي الذي طلبت فيه أديس أبابا وساطة تركية الشهر الماضي (فبراير/ شباط).

ومن المضحكات المبكيات في هذا الأمر أن بعضا ممن يدّعون المعارضة بدوا شامتين في هذه القنوات والقائمين عليها، وهي على الرغم من كل ما فيها من مشكلات، لا تزال الصوت الأعلى والأكثر إزعاجا في معارضة النظام وسياساته، وفقا للنظام ذاته. وإغلاقها لا يمثل مكسبا من أي جهة لهؤلاء، فلا هم يملكون منصات معارضة منافسة وبديلة قوية، ولا هم يأملون أن النظام، بهذا الإجراء إن تم، سيصبح أكثر عقلانية في التعامل مع معارضيه، ولن يلقيهم في سجون المستقبل، ولن يكسر تحالفات الأمل التي يسعون إليها.

يملك الأتراك سجلا حافلا بالانقلابات العسكرية الدموية، ترجم إلى عداء شعبي وتصدّ واسع للمحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016

كانت قنوات الخارج بمثابة قنوات الضرورة لكثيرين من متابعيها من خارج جمهور التيار الإسلامي العام داخل مصر وخارجها، في سياق التقييد الكامل الذي فرضه النظام بعد ترتيبات "3 يوليو" في 2013، واتباعه سياسة إعلام الصوت الواحد. ولئن كان على النظام في مصر التفكير فيما يمكن أن يملأ الفراغ الإعلامي الذي سيصيب القنوات المصرية وبرامج التوك شو التى لا هم لأكثرها سوى متابعة إعلاميي قنوات الخارج، واستخدام سقطاتها ولقطاتها في ترويج مقولات "نحن نحارب الإرهاب وأعداء الوطن الذين يبثّون السموم من الخارج"، فماذا يفعل هؤلاء إن أسقطت هذه المقولات، وأغلقت تلك القنوات، وليس لديهم مشروع بديل عن الشعبوية المضادّة؟

يملك الأتراك سجلا حافلا بالانقلابات العسكرية الدموية، ترجم إلى عداء شعبي وتصدّ واسع للمحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016، والتي لم يهلل لها في العالم أجمع سوى الحكومة المصرية وإعلامها. والحق أنه ليست تركيا وحدها التي لديها حساسية شديدة تجاه الانقلابات العسكرية، فالدول الأفريقية التي لطالما عانى أكثرها من هذه الانقلابات وويلاتها، كانت أول من عاقب النظام في القاهرة بتجميد عضوية مصر أزيد من عام. وتفسّر هذه الحساسية، إلى حد بعيد، ردود الفعل التركية تجاه ما جرى في مصر، لكن انطلاق هذه القنوات صوتا أعلى للمعارضة في الخارج من إسطنبول، وترويج مقولات استعادة الخلافة أو السلطنة، وأن النظام التركي امتداد لجماعة الإخوان المسلمين (في تبسيط مخلّ ومبتذل) هو ما جعل من النظام التركي هدفا دائما للنظام المصري وإعلامه في السنوات الثماني الماضية.

إذا صحّ أن مطلب إغلاق قنوات مصرية معارضة في تركيا طرحته القاهرة أولوية أولى حقاً، فهذا ينمّ عن ضحالة

يثير هذا سؤالا عما إذا كان المسؤولون الأتراك، الذين فرضوا جزءا مهما من رؤيتهم للمسألة السورية والمنطقة الحدودية الآمنة، وذهبوا بعيدا في نفوذهم في ليبيا، وأقاموا مع قطر تحالفا استراتيجيا، بهذه السذاجة، بحيث يحرقون أوراقا بأيديهم مجانا. وسؤالا آخر عن الذي على النظام في مصر تقديمه في المقابل. وإلى هذا، في وسع هذه القنوات والقائمين عليها، حال استحكام الضغوط عليهم، الانتقال إلى بلدان أخرى والبث منها أو بث برامجها عبر قنوات يوتيوب مع سقف حرياتٍ أعلى بكثير للحفاظ على جمهورها الذي اكتسبته عبر سنوات. حينها، لن يكون للنظام، ولا الدول المضيفة، عليهم من سبيل. وصحيحٌ أن الأمر ليس بهذه البساطة، لكنه ممكن ووارد جدا.

أخيرا، قد يكون المرء مرحبا بعقلنة خطابات هذه القنوات الفضائية المصرية المعارضة في إسطنبول، وإبعاده عن الشعبوية، ولكن لا يمكنه أن يؤيد إغلاقها، وبالذات إذا كان باحثا أو صحافيا أو محسوبا على المعارضة، فليس لدى مثل هؤلاء رفاهية الترحيب بتضييق على مضيق عليه، يرتبط بالأساس بأقلامهم وحريتهم ووجودهم ودفاعهم عن العدل والحرية والعيش الكريم. ويدركون، أو هكذا يجب، أن أي انتقاص من حرية الآخرين هو انتقاص من حرية المجموع وحريتهم هم أنفسهم.