عن ألمانيا والخليج والفرصة الضائعة

عن ألمانيا والخليج والفرصة الضائعة

22 يونيو 2022
+ الخط -

يشهد العالم منذ ما قبل انتشار جائحة كورونا تحوّلاتٍ عميقةً في بنية نظامه، كما في داخل دوله ومجتمعاته، مع صعود النزعات القومية والشعبوية من اليمين واليسار على السواء، مستمدّة قوتها من تعاظم الخوف والغضب وعدم اليقين تجاه ما يحمله المستقبل. وعلى الرغم من أن وصول رجل أعمال فاسد، مثل ترامب، إلى سدة الحكم في أقوى دول العالم، وكبرى ديمقراطياته، شكّل ما يشبه الصدمة التي أيقظتنا على عمق التحوّلات التي تجري حولنا، إلا أن أزمة أوكرانيا مثلت نقطة انعطافٍ سيجري تداولها، على الأرجح، باعتبارها مرحلة فاصلة بين حقبتين. سيكون لهذا الغزو تداعيات كبرى، أخذاً بالاعتبار مجموعة الأزمات التي أحدثها أو عمّقها (الطاقة، الغذاء، التضخم، الديون، التغير المناخي، الهجرة واللجوء، إلخ). وسيكون لمنطقتنا العربية نصيب منها، كذلك ستشهد تحولاتٍ مهمة لجهة علاقاتها الدولية، مع تحوّل مصادر الطاقة وخطوط إمدادها إلى العامل الحاسم في معركة السيادة على العالم.

خلال العقدين الماضيين، ومع التحول الذي شهدته خريطة الطاقة العالمية، نتيجة تقلص اعتماد الولايات المتحدة على نفط الخليج مع تنامي إنتاجها، وتزايد اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسي، بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز شراكة روسية ألمانية، عمادها "الطاقة مقابل التكنولوجيا"، تحوّلت منطقة الخليج لتصبح مصدر الطاقة الرئيس لأُولى الدول وثانيتها سكاناً. لكن هذا المشهد أخذ يتغيّر في عام 2022، إذ تحوّلت روسيا، مع توجّه أوروبا إلى تقليص الاعتماد على وارداتها من الطاقة، بعد غزو أوكرانيا، إلى مصدر الطاقة الرئيس للصين والهند (حيث الحصول على النفط الروسي الواقع تحت العقوبات الغربية بحسومات كبيرة)، فيما أخذت شحناتٌ متزايدةٌ من النفط والغاز العربي تتّجه الى أوروبا لتعويض النقص الحاصل في الإمدادات الروسية. وتُعَدّ ألمانيا، التي ظلت، حتى وقت قريب، أكبر زبون للغاز والنفط الروسي (55% و35% من إمداداتها على التوالي) مرشّحة لأن تصبح الوجهة الأولى لصادرات الغاز والنفط الخليجي إلى أوروبا.

ومع التحوّل في العقيدة الدفاعية والخارجية لألمانيا، التي توحي بتخطّيها عقدة النازية، وتوجّهها إلى بناء قوة عسكرية معتبرة، بعد أن خصصت حكومتها مائة مليار دولار لتسليح الجيش، ورفع الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج القومي (85 مليار دولار)، باتت ألمانيا، القوة الاقتصادية الرابعة في العالم، صاحبة ثالث أكبر إنفاق عسكري بعد الولايات المتحدة والصين. وفي ظل الضغط الأميركي المتزايد على الحلفاء، للاضطلاع بمزيد من المسؤوليات في الدفاع عن أمنهم ومصالحهم، سنشهد، مع توجّه ألمانيا إلى إغلاق الأبواب في وجه روسيا، بعد فشل رهانها في تحويلها إلى قوّة تلتزم المعايير الأوروبية، وتنامي اعتمادها على مصادر الطاقة في الخليج، زيادة في الحضور العسكري الألماني في المنطقة التي شكّل الوصول إليها (في ضفتها الإيرانية على الأقل) حلماً تاريخياً ألمانياً. يعزّز هذه الفرضية الحضور المتزايد للسلاح الألماني في تركيبة الجيوش الخليجية.

مع دخول القرن العشرين، برزت ألمانيا باعتبارها القوة الأولى في أوروبا، لكن افتقارها إلى مصادر الطاقة مثّل نقطة ضعفها الأكبر. وقد شكّلت محاولات الوصول إلى منابع الطاقة أحد أبرز محدّدات الاستراتيجية العسكرية الألمانية في الحرب العالمية الثانية، فغزت روسيا أملاً في الوصول إلى منابع النفط في أذربيجان، ومنها إلى إيران، واجتاحت شمال أفريقيا لمحاولة الوصول إلى منابع النفط في الخليج عبر مصر. خسرت ألمانيا الحرب نتيجة فشل الحملتين. الآن، مع صدور تقارير تفيد بارتفاع تكاليف الإنتاج بنسبة 35%، بسبب أزمة الطاقة الناجمة عن حرب أوكرانيا، باتت ألمانيا مهدّدة بأزمة اقتصادية قد تكون الأسوأ منذ أزمة عام 1929، ما يجعل منطقة الخليج في مركز الاهتمام الألماني، باعتبارها البديل الفعلي الوحيد، في ضوء عدم وضوح أفق العلاقة مع إيران، لإمدادات طاقة دائمة ورخيصة نسبياً تضمن استمرار تفوّقها الاقتصادي والتكنولوجي. بناءً عليه، يرجّح أن تحضر ألمانيا بقوة في حسابات منطقة الخليج التي يبدو أنها تتّجه إلى أن تصبح أهم بؤرة تنافس على مستوى العالم. ليست هذه الأخبار جيدة بالضرورة، أخذاً بالاعتبار غياب رؤية عربية للاستفادة من الأهمية الاستثنائية للمنطقة، في ظرفٍ تاريخيٍّ يُعَدّ أهمّ من ظرف 1973، لفرض شروطنا بشأن قضايا عربية عديدة، بدلاً من الالتحاق بمشاريع الآخرين، أو اعتبار أنفسنا، أقله، غير معنيين.