عن أعجوبة قرية العقر

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
(بول كلي)
توجد في عُمان مئات القرى الأثرية، أو ما بقي منها بعد اندثار قرى عديدة بسبب الإهمال وانتقال الأهالي منها إلى البناء في مسطّحات سكنية فارغة، أو ما تُسمّى محلياً "السيوح"، ولكن بعض القرى بقيت مأهولة على قدمها وتقادم العهد بساكنيها. وتحتل حارة العقر في ولاية نزوى مركزاً متقدّماً من ناحية صمودها وبقائها على هيئتها الأولى، مع تعاقب ساكنيها عليها. ويمكن أن تعدّ هذه الحارة أعجوبة من دون مبالغة. وتعود فترة بنائها إلى أكثر من ألف عام، حيث كانت مقرّاً للحكم في زمن الأئمة اليعاربة، تتصدّرها قلعة نزوى الدائرية الضخمة المتميّزة بعلوها الشاهق، ويقال إن حفرةً بمقاس علوّ أسوارها بالتمام والكمال قد حُفرت تحت الأرض لتكون أساساً صخرياً، لكي تحافظ القلعة على متانتها ترسانة حربية وعلميةً أيضاً، حيث كانت الدروس الدينية تُقام في حياضها وصحونها، حتى يقال، قديماً، إنك إذا بحثت عن فتوى في نزوى فستجدها حتى في بيتك، دلالةً على أن مختلف سكان المدينة من دارسي الفقه قد اختلفوا على هذه القلعة للتحصيل والدراسة. ترك الحكّام اليعاربة، وبخاصة الخمسة الأوائل منهم، آثاراً داخل عُمان وخارجها من أفلاج معقّدة الهندسة وقلاع عجيبة الإتقان. امتدّ نفوذهم إلى أجزاء من الهند وشرق أفريقيا وهم يطاردون البرتغاليين، إلى أن دحروهم من مناطق المحيط الهندي. وكانت حلة العقر، ببيوتها الطينية القديمة والمتهالكة، ستصير إلى زوال، لولا أن برقت فكرة في أذهان خمسة من شبابها، حين أسّسوا شركة محلية مساهمة لترميم الحارة وإنعاشها سياحياً. رمّموا حتى سورها العلوي الذي كانت خيول العسس الليلي تمشي في عرضه، في ما مضي. ومن يدخل من بوابة هذه الحارة سيشعر بأنه دخل إلى زمن آخر قديم، حيث تمنع السيارات من دخولها، كذلك فإن الذين يعملون بداخلها هم من أبناء الحارة نفسها، ولن تجد فيها ما تُسمّى رسمياً العمالة الآسيوية الوافدة إلا نادراً. أبناء المنطقة هم من يعملون بداخلها، حيث بنى الأهالي عدة فنادق ومتاحف ومقاهٍ ومطاعم، إلى جانب المتاجر لبيع السلع المحلية، من ضمنها أعشاب وأدوية طبيعية. تمتلئ هذه الحارة يومياً بالزائرين من خارج ولاية نزوى، وأيضاً من خارج عُمان، وسبب زيارة كاتب هذه السطور لها، وفد نسوي جاء من السعودية، من مختلف الأعمار، ينضوين تحت لافتة صديقات القراءة (28 قارئة) وقد قرأن قبل زيارتهن عُمان روايتي "درب المسحورة"، وقد نُسِّقَت الزيارة مع "مكتبة مجاز" التي يملكها الزوجان بدرية ولبيد العامري.
تقع حارة العقر بالقرب من سوق نزوى العتيق المجاور لقلعة نزوى التي يطلق عليها أيضاً "الشهباء". وحين وصلنا وجدنا في انتظارنا صفّاً من سيارات خاصة صغيرة الحجم، يمكنها أن تدخل إلى مختلف الزوايا في الحارة العتيقة، وهي تنوب عن السيارات العادية الممنوعة من الاقتراب، ويقود هذه السيارات الصغيرة شبابٌ عُمانيون من أبناء هذه الحارة المبنية جدرانها من الطين، حيث توجد في الحارة أيضاً عدة حصون وأبواب، كل باب يعلوه حصنان، وهي هندسة قد تبدو غريبة بسبب ارتفاع هذه الحصون فوق الأبواب، وتسمّى هذه الأبواب الصباحات، فكل باب يسمّى صباحاً، وسبب التسمية أنه قديماً كانت هذه الأبواب تغلق عند الغروب، ولا تُفتَح إلا في الصباح. وهناك أيضاً المساجد التاريخية والأفلاج المائية القديمة التي كأنها تجري جرياناً أزلياً بسبب سكونها واختبائها خلف حقول النخيل. وتشبه حارة العقر كثيراً المدينة القديمة في فاس المغربية، بعراقتها وبتعدّد أبوابها وصحون مساجدها وأزقتها الضيقة. كل زائر لهذه الحارة لا بد أن يعيش زمناً غير زمنه، وهذا ما حدث للوفد السعودي المرافق. والخطوة الجبارة التي قام بها أهالي الحارة، المتمثلة في بعث حارتهم وترميمها واستثمارها، أغرت أهالي بعض القرى العمانية القديمة لاستثمار قراهم المهجورة والاهتمام بها، كما هو الحال مع حارة الرمل بولاية عبري، التي بدأ الاهتمام يطاولها. كذلك كتب التنوخي في قصته الواردة في كتابه "كشف الغمّة" التي مفادها أن ما تبحث عنه بعيداً هو بالقرب منك، وما علينا سوى التفكير وإعمال العقل في استثمار ما لدينا، وهي القصة التي استثمرها (نقلاً عن بورخيس) البرازيلي باولو كويلو في تدبيج روايته ذائعة الصيت "الخيميائي"، وهكذا فعل أهالي حارة العقر حين اهتموا بحارتهم التي يقطنون فيها.


كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية