عن "النهضة" والشارع والتونسة

عن "النهضة" والشارع والتونسة

03 مارس 2021

مسيرة حركة النهضة في العاصمة تونس دعما لمؤسسات الدولة (27/2/2021/Getty)

+ الخط -

بالعودة إلى اللافتة الإشهارية التي كُتب عليها "8 أفريل 1938 -27 فيفري 2021 المسيرة تستمر امتدادا للحركة الوطنية" التي سوّقتها حركة النهضة في الفضاء العام الافتراضي، وتضمّنت صورة مظاهرات 8 - 9 أفريل (إبريل/ نيسان) 1938 التي عرفتها تونس زمن الاستعمار الفرنسي، وارتقى فيها 22 شهيدا و150 جريحا على خلفية المطالبة ببرلمان تونسي وحكومة وطنية، وشهدت اعتقال ما بين ألفين وثلاثة آلاف شخص، منهم قادة في الحزب الدستوري الجديد، أمثال علي البلهوان والحبيب بورقيبة، بالعودة إلى تلك اللافتة، فإن حركة الإسلام السياسي التونسي التي ظهرت مع "الجماعة الإسلامية التونسية" سنة 1972، وكان أميرها آنذاك راشد الغنوشي، وناهز عمرها نصف قرن، لم تجد في مخزونها الطويل ما تعيد إنتاجه في التعبئة لمسيرة دعم الشرعية التي نظّمتها يوم السبت الماضي (27 فبراير)، أو هي تتنكر لتجربتها السياسية الغنية بالصراعات والصدامات مع الدستوريين في أثناء مختلف مراحل حكمهم تونس 1956 - 2011، وتخشى إعادة إنتاج شعاراتها ومقولاتها الرئيسية المكثّفة، من قبيل "الإسلام هو الحل" و"القرآن دستورنا" و"الحاكمية الإلهية" وإشهارها من جديد. ما جعل حركة النهضة تلجأ مرة أخرى إلى تراث الحركة الدستورية، بشقيها، الحزب الدستوري القديم الذي كان يقوده عبد العزيز الثعالبي الذي عايش مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا سنوات في القاهرة، ولم يعتنق أفكاره واتجاهات جماعته أو يتأثر بها، بل كان أكثر أهمية وحظوة لدى النخب المصرية. (الزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي وإشكالية فكره السياسي، أحمد خالد، وزارة الثقافة، تونس، 2001)، والحزب الدستوري الجديد الذي قاده الحبيب بورقيبة، غريم الحركة الإسلامية وعدوها اللدود، وتوظيف ذلك التراث من أجل المنفعة السياسية. وقد انتظمت سنة 2017 ورشة عمل مشتركة بين جمعية منتدى العائلة الدستورية، ذات التوجهات الدستورية البورقيبية والتجمُعية (حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، الحاكم سابقا المنحل تاليا)، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية النهضوي – الإسلامي، وانتهت إلى الفشل، فلم تحقق المصالحة التي انتظمت من أجلها وبشّرت بها.

يتباهى النهضويون بحجم مسيرتهم غير المسبوق الذي فاق حتى تظاهرة 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014، التي أدت إلى انهيار نظام زين العابدين بن علي، حسب ما ورد في كلمة زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وفي تصريح رئيس مجلس الشورى للحركة، عبد الكريم الهاروني، وذلك بعد عملية تحشيد كبيرة ونقل للأنصار من مختلف الولايات والمدن والقرى والأرياف إلى العاصمة تونس، وبعد حملة واسعة من الدعاية والتنظيم المُحكم وتوفير الشروط المالية واللوجستيكية للمشاركة. والحال أن هذه المسيرة التي قدّرها منظموها بعشرات الآلاف، ولم تحدد وزارة الداخلية عدد المشاركين فيها، تعكس انحدارا في شعبية "النهضة" التي بلغت أوجها في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 بمليون وخمسمائة ألف صوت، لتنزل في الانتخابات التشريعية سنة 2014 إلى 947 ألف صوت، وتستقر في انتخابات 2019 في حدود 561 ألف صوت، فقد كانت الحركة قادرة على تنظيم اجتماع بذلك الحجم في كل ولاية على حده. ولكن الأهم من الأرقام التي لا تزال تضع "النهضة" في مراتب متقدمة في استطلاعات الرأي، وتعطيها المرتبة الثانية بعد الحزب الدستوري الحر، هو تنظيم الإسلاميين مسيرتهم منفردين من دون مشاركةٍ من بقية الأحزاب السياسية، بما في ذلك ائتلاف الكرامة الذي يشترك مع "النهضة" في الانتماء إلى الإسلام السياسي، وحزب قلب تونس شريكها في الحكم، ومن دون تأييد من قوى المجتمع المدني والأهلي، ومن المنظمات الوطنية الكبرى، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة.

عُرف عن حزب حركة النهضة بأنه "آكل الأحزاب ومفترسها"، تشهد على ذلك مقبرة هذه الأحزاب التي عملت مع "النهضة" أو تحالفت معها

اختارت حركة النهضة (الإسلامية)، هذه المرّة، أن تتصدّر مسيرتها مجموعة من النساء اللواتي يرتدين لباس "السفساري"، الزي التقليدي النسوي التونسي، بدلا من ارتدائهن الحجاب أو النقاب، كما كانت المرأة تفعل في مظاهراتها وتجمعاتها السياسية وتظاهراتها الثقافية، فالحجاب والنقاب ليسا مجرّد لباس، وإنما عنوان هوية سياسية وحزبية استثمرتها تيارات الإسلام السياسي النهضوية والسلفية أيما استثمار زمن حكم زين العابدين بن علي. ويبدو أن "أزمة التونسة" التي تعيشها "النهضة" تدفعها إلى التخلي عن الحجاب والنقاب، والاحتفاء بدلا من ذلك بالسافرات وغير المحجبات أو المنتقبات اللواتي شاركن في مسيرة السبت المنقضي، وإعطائهن مكانة متميزة، والإعلاء من شأنهن في صفحات حركة النهضة ومدوّناتها الإلكترونية الكثيرة العدد واسعة الانتشار وإبرازهن أيقونات. وفي السياق نفسه، يمكن فهم هيمنة الراية الوطنية في المسيرة "النهضوية" مقارنة بالراية الحزبية التي ظهرت متناثرة هنا وهناك، وكأن لسان حال قادة "النهضة" الذين فرضوا هذا الخيار يؤكد على تونسية الحركة بدلا من إسلاميتها، فقد أظهر أحد أبرز قياداتها، نور الدين البحيري، بطاقة التعريف الوطنية (بطاقة الهوية) على الملأ في برنامج تلفزي، ونافح عن أنه ولد تونسيا وسيبقى تونسيا أبا عن جدّ، من دون أن يسأله أحد من الصحافيين عن تونسيته. وذكّر بأن حزبه متمتع بالتأشيرة القانونية منذ سنة 2011، في محاولة منه لتجاوز "أزمة التونسة" التي يستبطنها، وتعيشها حركته، على الرغم من كل المراحل التي قطعتها على مدى عشر سنوات لإقناع النخب الوطنية بأنها حزب وطني، شأنه في ذلك شأن كل الأحزاب التونسية. وقد أردف النهضويون ذلك كله بالالتزام بمكان مسيرتهم، وهو شارع محمد الخامس في العاصمة، وعدم خرق بروتوكولات التنظيم الصارمة، والتوجه إلى شارع الحبيب بورقيبة عنوة بوصفه شارع الثورة التونسية ورمزها كما هو متعارف عليه لدى كل الأحزاب والمنظمات الوطنية وجمعيات المجتمع المدني التي لا ترى نفعا من تظاهرها خارج ذلك الشارع الرمز، والذي كثيرا ما يخضع لترتيبات وإجراءات خاصة، يؤمّنها رجال أمن، اختار نشطاء نهضاويون التقدّم لهم بالورود، بدل من قذفهم بالحجارة أو بالدهن كما فعل غيرهم، وذلك كله في إطار مقتضيات التونسة، ومحاولات القطع مع ميراث العنف والدم الذي ميّز مسيرة الإسلام السياسي، وكان أبرزَ ضحاياه أمنيون وعسكريون. ففي الشارع نفسه، انتظمت العملية الإرهابية ضدّ الأمن الرئاسي سنة 2015. وفي الذاكرة والمخيال الجمعي التونسي، لا ينسى اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي سنة 2013 وعمليتي باردو وسوسة الإرهابيتين سنة 2015، ومحاولة تأسيس إمارة داعشية في بنقردان سنة 2016.

لم تجن "النهضة" ثماراً سياسية تذكر من مسيرة 27 فبراير، فلا أثّرت في شرعية الرئيس قيس سعيد الشعبية، ولا غيّرت من موقفه تجاه الحكومة

لم تجن حركة النهضة ثمارا سياسية تذكر من مسيرة 27 فيفري (فبراير)، فلا هي أثّرت في شرعية رئيس الجمهورية قيس سعيد الشعبية، ولا غيّرت من موقفه تجاه الحكومة ورئيسها هشام المشيشي الذي فقد مصداقيته بالكامل بعد مأزق التحوير (التعديل) الحكومي، وما صاحبه من أزمة هيكلية عميقة، ماليا واقتصاديا واجتماعيا. ولا هي أعادت الثقة الشعبية في البرلمان الذي تشكّلت صورته النهائية في ذهن الرأي العام فضاء لـ"صراع الديكة"، وترذيل الحياة السياسية وانهيار القيم والرمزيات. ولا هي صالحت بين حركة الإسلام السياسي الأبرز والأقوى في تونس والغالبية الساحقة من التونسيين (سكان العاصمة وحدها يقاربون ثلاثة ملايين) الذين اكتفوا بدور المشاهد والمراقب للمسيرة النهضاوية، والمبتغى السياسي منها. بل لقد خسرت حركة النهضة، وهي المؤتمنة على الحكم منذ عشر سنوات بالقيادة أو المشاركة من سلوكها حزبا معارضا يعتمد الشارع وسيلة ضغطٍ لتحقيق الأهداف السياسية، ويحاول التملّص من المسؤولية عن الوضع المأزوم الذي بلغته الدولة التونسية الذي يضعها على حافّة الإفلاس، ومحاولة كسب عذرية سياسية جديدة، للاستمرار ومزيد من التموقع والتمكين من مفاصل الدولة. وستكون هذه الخسارة مضاعفة عندما ينتهي أمر الحزب الإسلامي ذي الأذرع الاقتصادية والمالية والافتراضية والإعلامية والارتباطات الدولية التي يعتمدها أداة لولوج أسواق السياسة التونسية والأجنبية والهيمنة على الرأي العام، كما كان يفعل التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الكلياني الذي حكم تونس زمن حكم بن علي. وفي الآن نفسه، يتحول الحزب نفسه إلى ما يشبه الطائفة المتناغمة دينيا ومذهبيا وسياسيا، من دون أن يلقى تعاطف ودعم أي من مكونات الفسيفساء السياسية والنقابية والمدنية التونسية، فقد عُرف عن حزب حركة النهضة بأنه "آكل الأحزاب ومفترسها"، ومقبرة هذه الأحزاب التي عملت مع "النهضة" أو تحالفت معها خلال السنوات العشر المنقضية تشهد على ذلك. وأن فاعلي هذا الحزب وشبابه يعيشون لذّة استعداء الاتحاد العام التونسي للشغل وشن الحملات المتتالية والدورية عليه، بموجب وبدون موجب، سوى أنه يمثل عاملا تتوازن به الحياة العامة، ولا تختل لصالح شبكة حركة النهضة الإسلامية.